تأملات حديثة في الهوامل والشوامل
في يونيو من العام الماضي، انبجرت الغواصة تيتان التي كانت تتبع لشركة أوشن جيت الأمريكية، في عمق سحيق من المحيط الأطلنطي، على مقربة من سواحل نيوفاوندلاد الكندية. لقي طاقم الغواصة وركابها الثلاثة من المترفين الذين دفع كل واحد منهم ربع مليون دولار ثمنا لتذكرة مغامرة معاينة حطام سفينة التيتانيك في قعر المحيط، مصرعهم في هذا الحادث المأساوي. قد تثير مثل هذه الحوادث العجب في نفوس البعض، وتدفعهم للتساؤل عمَّا الذي يدفع مثل هؤلاء الأثرياء الذين يتوفرون على كل سبل الراحة والرفاهية، الآمنة نسبياً، لأن يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة بالغوص في غياهب المحيطات أو محاولة تسلق جبل إيفرست، الذي يهلك دونه كثير أيضا, أو بارتياد غير هاتين من مسالك المغامرات الخطرة.
لربما وجدنا الإجابة على هذا السؤال وغيره في صفحات كتاب الهوامل والشوامل الذي طرح فيه «أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء» أبو حيان التوحيدي، قبل ألف عام تقريبا، أسئلة مشابهة، أجاب عنها الفيلسوف ابن مسكويه. فها هو التوحيدي يتساءل «لم يضيق الْإِنْسَان فِي الرَّاحَة إِذا توالت عَلَيْهِ وَفِي النِّعْمَة إِذا حالفته؟ وَبِهَذَا الضّيق يخرج إِلَى المرح والنزوان وَإِلَى البطر والطغيان وَإِلَى التحكك بِالشَّرِّ والتمرس بِهِ حَتَّى يَقع فِي كل مهوى بعيد وَفِي كل أمْر شَدِيد. ثمَّ يعَض على أنامله غيظاً على نَفسه بِسوء اخْتِيَاره وأسفاً على تَركه مَحْمُود الرأي ومجانبته نصيحة الناصحين (...) أَي أطفاه الشبَع وأبطرته الْكِفَايَة وأترفته النِّعْمَة حَتَّى بطر وأشر». وإليك إجابة ابن مسكويه على هذا السؤال القديم المتجدد «السَّبَب فِي ذَلِك أن الرَّاحَة إِنَّمَا تكون عَن تَعب تقدمها لَا محَالة. وَجَمِيع اللَّذَّات يظْهر فِيهَا أَنَّهَا راحات من آلام. وَإِذا كَانَت الرَّاحَة إِنَّمَا تكون عَن تَعب فَهِيَ إِنَّمَا تستلذ وتستطاب سَاعَة يتَخَلَّص من الشَّيْء المتعب. فَإِذا اتَّصَلت الرَّاحَة وَذهب ألم التَّعَب لم تكن الرَّاحَة مَوْجُودَة، بل بطلت وَبَطل مَعْنَاهَا. وَمَعَ بُطْلَانهَا بطلَان اللَّذَّة. وَمَعَ بطلَان اللَّذَّة غلط الْإِنْسَان فِي الشوق إِلَى اللَّذَّة الَّتِي يجهل حَقِيقَتهَا. أَعنِي أَنه يشتاق إِلَى معنى اللَّذَّة ويجهل أَنَّهَا رَاحَة من ألم (...) فَأَما الْجَاهِل فَلِأَنَّهُ يعْتَرض لَهُ مَا ذَكرْنَاهُ بِالضَّرُورَةِ صَار يَقع فِيهِ دَائِما فَيحصل فِي هموم وآلام وأمراض لَا نِهَايَة لَهَا. وعاقبه جَمِيع ذَلِك النَّدَم والأسف.» أترك لك التعليق على صواب تفسير ابن مسكويه ورجاحة رأيه في هذه المسألة!
وفي موضع آخر من الكتاب، يستفسر التوحيدي عن «السَّبَب فِي أَن إحساس الْإِنْسَان بألم يَعْتَرِيه أَشد من إحساسه بعافية تكون فِيهِ، حَتَّى لَو شكا يَوْمًا لِأَن أَيَّامًا وَهُوَ يمر فِي لِبَاس الْعَافِيَة فَلَا يجد لَهَا وَقعا وَإِنَّمَا يتبينه إِذا مَسّه وجع أَو دهمه فزع (...) أَنَّك تَجِد شكوى الْمُبْتَلى أَكثر من شكر الْمعَافي وَإِنَّمَا ذلك لوجدان أَحدهمَا مَا لا يجده الآخر. أحسب أن هذا السؤال أيضاً لا يزال مطروحاً في وقتنا الحاضر، بسبب أنه، وكثير غيره من أسئلة الكتاب، يستفسر عما يعن للنفس البشرية وما يجري عليها، والناس هم الناس، سواء كانوا يجوبون شوارع بغداد القديمة، قبل ألف سنة، أو يتسامرون على الكورنيش في يومنا هذا. يجيب ابن مسكويه فيقول: «السَّبَب فِي ذَلِك أَن الْعَافِيَة إِنَّمَا هِيَ حَال ملائمة مُوَافقَة للْحَال الطبيعي من المزاج المعتدل الْمَوْضُوع لذَلِك الْبدن. والملائمة والموافقة لَا يحس بهما وَإِنَّمَا الْحس يكون للشَّيْء الَّذِي لَا مُوَافقَة فِيهِ. وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَن الْحس إِنَّمَا أعطي الْحَيَوَان ليتحرز بِهِ من الْآفَات الطارئة عَلَيْهِ وليكون ألمه بِمَا يُرِيد عَلَيْهِ مِمَّا لَا يُوَافقهُ سَببا لتلافيه وتداركه قبل أَن يتَفَاوَت مزاجه ويسرع هَلَاكه. فأنشئت لذَلِك أعصاب من الدِّمَاغ وَفرقت فِي جَمِيع الْبدن ونسجت بهَا الْأَعْضَاء الَّتِي تحْتَاج إِلَى إحساس كَمَا بَين ذَلِك فِي التشريح وَفِي مَنَافِع الْأَعْضَاء (...) وَإِنَّمَا وفرت الأعصاب على الْأَعْضَاء الشَّرِيفَة لتصير أذكى حسا ولتكون بِمَا يرد عَلَيْهَا من الْآفَات أسْرع إحساساً. وكل ذَلِك ليبادر إِلَى إِزَالَة مَا يجده من الْأَلَم بالعلاج وَلَا يغْفل عَنهُ بتوان وَلَا غَيره. وَلَو خلا الْإِنْسَان من الْحس وَمن الْأَلَم ومكانه لَكَانَ هَلَاكه وشيكاً من الْآفَات الْكَثِيرَة. وَأما الْحَال الملائمة فَلَا يحْتَاج إِلَى إحساس بهَا. وَهَذِه حَال جَمِيع الْحَواس الْخمس فِي أحوالها الطبيعية وأنها لَا تحس بِمَا يلائمها وَإِنَ ّمَا تحس بِمَا لَا يُوَافِقهَا.» هذه الإجابة المذهلة، في نظري، مملوءة بالحكمة كما أنها شديدة الدلالة على فطنة ابن مسكويه وتوفره على معرفة طبية عميقة، ومقدرة مثيرة للإعجاب على الربط المنطقي والاستدلال الذكي، تستعصي على النقد والنقض، حتى مع تقدم المعارف الطبية الحديثة!
وما أحسب ابن الجوزي إلا موافقاً على الجزء الأول من هذه الإجابة، على الأقل، فها هو يذكر في باب «دفع فضول الهم والغم» من كتابه «الطب الروحاني» أن الإنسان كلما طال ألفه لما يحبه واستمتاعه به، تمكن من قلبه، فإذا فقده أحس من مر التألم في لحظة لفقده بما يزيد على لذات دهره المتقدم، وهذا لأن المحبوب ملائم للنفس كالصحة فلا تجد النفس لذتها إلا عند وجودها، وفقدها مناف لذلك، ولذلك تألم بالفقد ما لا تفرح بالموجود, لأنها ترى وجود المحبوب كالحق اللازم لها, فينبغي للعاقل تقليل الألفة».
نواصل في تقليب صفحات الهوامل والشوامل فتقع عيننا هذه المرة على مسألة طبيعية، والكتاب مليء بمسائل طبيعية ولغوية وأخلاقية وغير ذلك، لنجد التوحيدي يتساءل « لم كَانَ صَوت الرَّعْد إِلَى آذاننا أَبْطَأَ وَأبْعد من رُؤْيَة الْبَرْق إِلَى أبصارنا؟», لنفتش هذه المرة عن الإجابة أولا في موقع تابع لوكالة ناسا الفضائية، التي تفيدنا بأن علة ذلك ترجع إلى أن سرعة الضوء ثابتة ومقدارها مئة وستة وثمانون ميلا في الثانية بينما تنتقل الموجات الصوتية بسرعة أقل بكثير هي سبعمائة وستون ميلا في الثانية. يخبرنا ذات الموقع أن الحرارة المتولدة من البرق تتسبب في توليد صوت الرعد الذي تنتقل موجاته عبر الهواء بسرعة تقل عن مثيلتها التي تخص البرق. ولنعد الآن لنقرأ جواب ابن مسكويه « وَلما كَانَ الْهَوَاء سريع الْقبُول للضوء بل يستضيء فِي غير زمَان, وَذَاكَ أَن الشَّمْس حِين تطلع من الْمشرق يضيء مِنْهَا الْهَوَاء فِي الْمغرب بِلَا زمَان وَكَذَلِكَ الْحَال فِي كل مضيء كالنار وَمَا أشبههَا إِذا قَابل الْهَوَاء, قبل مِنْهُ الإضاءة بِلَا زمَان - وَكَانَ الْهَوَاء مُتَّصِلا بِأَبْصَارِنَا لَا وَاسِطَة بَيْننَا وَبَينه - وَجب أَن يكون إدراكنا أَيْضا بِلَا زمَان وَلذَلِك صرنا أَيْضا سَاعَة نفتح أبصارنا ندرك زحل وَسَائِر الْكَوَاكِب الثَّابِتَة المضيئة إِذا لم يعْتَرض فِي الْهَوَاء عَارض يستر أَو يحجب. فَأَما الرَّعْد فَلَمَّا كَانَ أَثَره فِي الْهَوَاء بطرِيق الْحَرَكَة والتموج لَا بطرِيق الاستحالة - وَجب أَن يكون وُصُوله إِلَى أسماعنا بِحَسب حركته فِي السرعة والإبطاء وَذَاكَ أَن الصَّوْت الَّذِي هُوَ اقتراع فِي الْهَوَاء يموج مَا يَلِيهِ من الْهَوَاء كَمَا يموج الْحجر الْجُزْء الَّذِي يَلِيهِ من المَاء إِذا صك بِهِ ثمَّ يتبع ذَلِك أَن يموج أَيْضا بعض المَاء بَعْضًا وَبَعض الْهَوَاء بَعْضًا على طَرِيق المدافعة بَين الْأَجْزَاء إِذا كَانَت مُتَّصِلَة». يواصل ابن مسكويه الرد فيضيف « فَكَمَا أَن جَانب الغدير إِذا تموج حرك مَا يَلِيهِ فِي زمَان ثمَّ مَا يَلِي مَا يَلِيهِ إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى الْجَانِب الْأَقْصَى مِنْهُ حَتَّى تصير بَينهمَا مُدَّة وزمان على قدر اتساع سطح المَاء فَكَذَلِك حَال الْهَوَاء إِذا اقترع فِيهِ الْجِسْم الصلب حرك مَا يَلِيهِ من الْهَوَاء وتموج بِهِ ثمَّ حرك هَذَا الْجُزْء مَا يَلِيهِفِي زمَان بعد زمَان حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى الْجُزْء الَّذِي يَلِي آذاننا فنحس بِهِ». لا يملك المرء إلا أن يجدد إعجابه بهذا الرد البديع ولهذه العقلية المتميزة التي أنتجت مثل هذه الإجابة البليغة والمنطقية.
هل يعني هذا أن نقرأ كتاب الهوامل والشوامل بعين الرضا التي هي عن كل عيب كليلة، وأن نتقبل كل ما فيه. الإجابة بطبيعة الحال هي لا، فالكتاب مثله مثل أي جهد بشري آخر لا يخلو من الأخطاء، كما أن بعض اجاباته، المحكومة بحدود المعرفة المتاحة لمؤلفيه قبل ألف عام، تجاوزها الزمن ولم تعد مقبولة في وقتنا الحاضر. فابن مسكويه يحيل في بعض تبريراته إلى نظريات الأخلاط الأربعة التي كان الأقدمون يستشهدون بها لشرح الأمراض والعلل، ويبرر صعوبة علاج الصرع، مثلا ب» بخار غليظ يكون من بلغم لزج وكيموس غليظ يسد منافذ الرّوح الَّتِي فِي بطُون الدِّمَاغ». لكن هذه النواقص المتوقعة والمفهومة، لا تنقص من قدر الكتاب الذي يطرح أسئلة قديمة متجددة عن « لم تحاث النَّاس على كتمان الْأَسْرَار وتبالغوا فِي أَخذ الْعَهْد بِهِ وحرجوا من الإفشاء وَتَنَاهوا فِي التواصي بالطي وَلم تنكتم مَعَ هَذِه المقامات وَكَيف فَشَتْ وبرزت من الْحجب المضروبة حَتَّى نثرت فِي الْمجَالِس وخلدت فِي بطُون الصُّحُف وأوعيت الآذان وَرويت على الزَّمَان؟», وعن « الْعلَّة فِي حب العاجلة؟ «, وعن رهاب الحديث أمام الجموع «مَا السَّبَب فِي أَن الْخَطِيب على الْمِنْبَر وَبَين السماطين وَفِي يَوْم المحفل يَعْتَرِيه من الْحصْر والتتعتع والخجل فِي شَيْء قد حفظه وأتقنه ووثق بحسنه ونقائه», وغير ذلك من القضايا التي ما تزال ترد على الإنسان في وقتنا هذا.
في الختام، يجدد كاتب هذه السطور دعوته لإعادة قراءة كثير من كتب التراث ففيها، كما لا يخفى على القارئ، المتعة واللغة الرفيعة، وبها أيضاً مورد عذب لقسط غير قليل من الحكمة وآلات الفهم لشؤوننا المعاصرة.
** **
د. صديق عمر الصديق عبدالله - الأستاذ بجامعة كزافييه في لويزيانا، نيو أورليانز، لويزيانا بالولايات المتحدة الأمريكية