الكلمات أسلوب فني، تتسلح برموز تزيد من طابعها الجمالي، فتصبح أكثر إيحاءً وغنى، معبرة بفعالية عن تجارب الحياة والعواطف بأبعاد أكثرعمقًا وتعقيدًا.
يقول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ
فعند قراءة هذا البيت الشعري، يمكننا تحليله من منظور أدبي لفهم الدلالات والصور الجمالية المستخدمة فيه، بالإضافة إلى استخدام الاستعارات والكنايات.
ففي هذا البيت الشعري تبرز القوة الكلامية للشاعر عندما يقول “أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي”، وهذا يعني أن الشاعر يمتلك القدرة على إيصال رؤيته الشخصية وإلهامه الإبداعي إلى الآخرين، وأنه قادر على إزاحة الستارة عن الجمال والإبداع الذي يمتلكه في كلماته حتى وإن كان الآخرون غير قادرين على رؤيتها بأنفسهم. وعندما يقول “وأسمعت كلماتي من به صمم”، يشير إلى أنه يمتلك القدرة على إيصال صوته وكلماته إلى الآخرين، حتى وإن كانوا غير قادرين على سماعها بأنفسهم. وهذه الصورة الجمالية تعكس القوة الإبداعية للشاعر وتأثيره العميق على القراء والمستمعين.
بالإضافة إلى أنه في هذا البيت الشعري يتم التعبير عن تجربة الشاعر في إلقاء قصائده وكلماته على العالم مستخدماً المقارنة بين نفسه وبين العميان والصم، ليعبر عن أهمية قوة الكلمة وتأثيرها على الآخرين. فتكمن الدلالة الأدبية هنا في توجيه رسالة للقارئ بأن الكلمات قادرة على إحداث تأثير عميق وتغيير في الآخرين رغم عدم وعيهم لذلك.
بل إنه لما استخدام الاستعارات والكنايات أضفى مزيداً من الجمال والتعبير العاطفي على الكلمات، فاستخدام عبارة “نظر الأعمى إلى أدبي” استعارة للتعبير عن قدرة الشاعر على جلب الجمال والإلهام من خلال كلماته، وقدرته على تحويل العبوس والظلمة إلى جمال وإلهام، وعبارة “أسمعت كلماتي من به صمم” استعارة للتعبير عن قدرة الشاعر على إيصال صوته وكلماته إلى الآخرين، وهذه الاستعارات تضيف بعدًا أدبيًا وجمالياً وتعبيرًا عاطفيًا على البيت الشعري، وتعزز قوة التعبير وإثارة الشعور والتأثير على القراء والمستمعين، وتحويل هذا الجمهور المحدود إلى مستمعين وقراء متحمسين لكلماته وإلهامه الإبداعي، كما يعبر هذا البيت الشعري عن قدرة الشاعر على تخطي العقبات والتحديات وإيصال رسالته وتأثيره إلى الآخرين بغض النظر عن قدرتهم على الفهم الكامل. وهذا يظهر استعمالًا متقنًا للإبداع اللغوي والصور الجمالية في البيت الشعري.
ويمكننا الإفادة مما يحمله هذا البيت من معانٍ عميقة والتي تكمن في أهمية استخدام الكلمات بحذر ووعي، حيث يمكن لكلمة واحدة أن تحدث تأثيرًا كبيرًا وتغيراً في حياة الآخرين، وأنه يمكننا تحويل الصعاب والتحديات في حياتنا إلى فرص للنجاح والتطور، وعدم الاستسلام أمام الصعوبات والمضي قدمًا في سعينا نحو تحقيق أهدافنا، كما يعلمنا ذلك أهمية الإبداع اللغوي في التعبير عن أفكارنا وإيصالها بشكل فعال ومؤثر.
كما يمكننا استقاء بعض القيم من مدلولات هذا البيت الشعري والتي تتمحور في تعلم قيمة الإبداع في التعبير عن أفكارنا ومشاعرنا، واستكشاف قدراتنا الخاصة وتحقيق أحلامنا، والتشجيع على استخدام اللغة والتعبير بطرق مبتكرة وفنية لإيصال رسالتنا بشكل فريد ومميز، والحرص على السعي للتحسين الذاتي والنمو الشخصي وإلقاء الضوء على أهمية الاستمرار في تطوير أنفسنا وتحقيق أهدافنا الشخصية. والحرص على التواصل الإنساني والتفاعل الإيجابي مع الآخرين بصدق واحترام وتعزيز العلاقات الإنسانية القوية.
وكذلك أهمية العمق والتأمل في الحياة والعالم من حولنا، والحث على التفكير العميق والبحث عن المعاني المخفية والرموز وراء الكلمات، أضف إلى ذلك أن تعزيز البيت الشعري قيمة الجمال والروحانية في الحياة يلهمنا الاستمتاع بالجمال الذي يحيط بنا وتقدير الأشياء الصغيرة والتفاصيل الجميلة في الحياة، وأهمية قيمة الصدق ونقاء التعبير عن أنفسنا والتعبير عن مشاعرنا وأفكارنا بصدق وامتنان، دون خوف من الحكم أو الانتقاد، مع التحلي بالصبر والثبات في وجه التحديات والصعاب والتمسك بأملنا والمضي قدمًا في حياتنا بثقة وإصرار.
إن اختيار الشاعر لشخصية “الأعمى” و “الأصم” يحمل دلالات متعددة وقيمة أدبية واجتماعية مهمة.
فرمزية الأعمى والأصم: يمكن أن تكون رمزًا للحالة البشرية عمومًا، حيث يعكسان العجز والفقدان. ويمكن أن يرمزا إلى القيود والعوائق التي يواجهها الإنسان في الحياة، وقد تعبر عن الصعوبات والتحديات التي يواجهها الجميع.
وقد ترمز إلى أن الكلمات واللغة لا تكفي للتعبير عن المشاعر والأفكار بشكل كامل، ومن ثم تستخدم هذه الشخصيات لإظهار الصعوبات العاطفية والتعبيرية التي يواجهها الإنسان، وقد تساعد رمزية الأعمى والأصم في تعزيز التعاطف والتفاهم بين الناس، وأن كل شخص لديه قصة وتحديات خاصة، وأنه يجب علينا أن نكون أكثر تسامحًا وتفهمًا تجاه الآخرين.
فرمزية الأعمى والأصم من الناحية الأدبية والاجتماعية تؤدي عملاً مهمًا في التفكير والتأمل والبحث عن الأساليب التي يمكن أن تسهم في تعزيز الوعي الاجتماعي وتشجيع الحوار حول موضوعات اجتماعية كالتعاطف والتواصل والتحديات التي يواجهها الأفراد في المجتمع.
** **
- د. حمدان إبراهيم الحارثي