الأديب الكبير: زكي مبارك الذي حصل على ثلاث درجات دكتوراه، فأصبح يُلَقَّب: بالدكاترة!
قال عنه كثيرٌ من نُقَّاد العربية: إنه صاحب أفضل أسلوب بياني في العصر الحديث، وقال عنه آخرون: إنه أحد أقطاب الأدب الساخر في الأدب العربي الحديث، لما حصل على درجة الدكتوراه الثالثة، وكان عنوانها: التصوف الإسلامي، رفض الدكتور: طه حسين وكان حينها عميدًا لكلية الآداب، رفض إعطائه الشهادة، حتى يُسَلِّم الجامعة خمسين نسخة مطبوعة من رسالة الدكتوراه…
وكان زكي مبارك في خصومة عنيفة مع طه حسين، بسبب معاركه الأدبية معه التي كان آخرها تلك المعركة التي وسمها مؤرخو الأدب بمعركة: الشواء، ووصفها بعضهم بمعركة الكرامة.
وكان يظن زكي مبارك أن هذه المعارك الأدبية لن تؤثر عليه، ولا على رسالته الجامعية الثالثة، لأنه الآن في معقل الحرم الجامعي حيث الحياد العلمي فقط!
لكن طه حسين ضرب بالعلم وحياده عرض الحائط!
أعود إلى ذلك الشرط التعجيزي الذي اشترطه طه حسين، فالجميع يعلم أن زكي مبارك ظُلِم في هذا الشرط!
فالجامعة كانت هي التي ستطبع الرسالة، خصوصًا أن زكي مبارك حصل عليها بمرتبة الشرف!
ولكن طه حسين كان له تدخلات أقل ما يقال عنها:
(إنها غير مهنية) فهو يعلم أن زكي مبارك رجلٌ حالته المادية أقل بكثير من أن يطبع خمسين نسخةً من رسالته ذات مئات الصفحات على حسابه!
وزكي يؤكد لنا هذا بقوله: «أنا رجلٌ فقير الجيب، ثم من هو الناشر الذي يُقدِم على طبع كتاب: التصوف الإسلامي وفيه مئات ومئات من الصفحات”
“ويقول زكي مبارك عن هذا الكتاب:
«إنه أعظم عمل قمتُ به في حياتي، وهو الكتاب الذي بدَّد قوتي، وسحق شبابي”
وبعد هذ الظلم الكبير الذي تعرض له أديبنا الكبير، لم يكتفِ طه حسين بهذا، بل لاحقه في رزقه فأبعده عن الجامعة، وتحوًل بعدها إلى التعليم العام، فعمل مفتشًا لمواد اللغة العربية في المدارس إلى أن أصيب بالإحباط، وهو يرى أنه أحق بالتدريس في الجامعة من غيره الذين لا يملكون مثل مؤهلاته، وشهادات الدكتوراه الثلاث اللاتي أفنى فيها حياته، ولكنهم يملكون أكبر الشهادات في نفاق طه حسين!
ولعل دخول زكي مبارك في معارك أدبية مع عدد من الأدباء والمثقفين، أمثال: طه حسين وسلامة موسي، والعقاد، والرافعى، وأحمد زكي باشا، والمازني وغيرهم أفقده كثيرًا من الصداقات، بل وجلبت له الكثير من العداوات خصوصًا بعد أن تبوأ بعضهم مناصب عليا.
هذه المعارك التي دخلها زكي مبارك بقلم أحد من السيف، وبقلب أبيض كالقطن!
هي كما يراها تجدد نشاطه، وتشحذ همته، وتملأ فراغه!
لذلك كان لا ينتهي من معركة إلا ويدخل في أخرى، وكأنه لا يستطيع أن يتنفس إلا في أجواء المعارك!
لكن هذه المعارك أفقدته الكثير من الأصدقاء في الوسط الثقافي
وتسببت له في الكثير من الخسائر، ومنها: التدريس في كلية الآداب!
ومن الطريف أنه دخل في معركة أدبية مع الزيات الذي كان ينشر له في الرسالة مقالاته ومعاركه، ولأنَّ الزيات يعرف جيدًا نفسية زكي مبارك، ويعرف طيبته الزائدة، فقد غض الطرف عنه، بل وفتح له مجلته على مصراعيها بعد أن أطلق عليه لقب:
الملاكم الأدبي!
في عام حدث أمر غريب فقد انتدبته وزارة المعارف المصرية، لتدريس الأدب العربي في كلية المعلمين للخلاص منه، واتقاءً لقلمه! فرحبت به العراق ورحَّب به العراقيون، ووجد ضالته التي فقدها في مصر!
لفد وجد التقدير والاهتمام، لدرجة أن العراقيين طافوا به محافظات العراق في ذلك العام. وفي ذلك العام كتب كتابه الشهير (ليلى المريضة في العراق) وبادل العراقيين حبًا بحب ووفاءً بوفاء، فأصدر كتابه: (وحي بغداد) الذي خلَّد فيه ذكر العراق والعراقيين وكرمهم وإعجابه بهم…
والأغرب من هذا كله، أن زكي مبارك لم يكمل مدة الانتداب التي كانت أربع سنوات!
ففي كتابه (وحي بغداد) يذكر أنه هو الذي رغب في عدم التجديد
وطلب العودة إلى مصر، لطباعة كتابه الذي حمل همه: (التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق) ولكن هناك أخبار تسربت
في تلك الأيام، تقول: أن المسؤول العراقي هو الذي رغب في عدم التجديد، لأن زكي مبارك كشف كثيرًا من المستور عن جلسات كبار المسؤولين وسهراتهم في كتابه: (ليلى المريضة في العراق)
الذي كتبه بحبر وردي، وأسلوب ساخر، ونية طيبة!
عاد زكي مبارك إلى مصر بعد هذا العام الحافل في بغداد، ولكنه
وجد الجحود والنكران ممن كان يؤمل فيهم خيرًا من الأدباء
والكتاب، فتراجعت نفسه، واعتلت صحته، فاستسلم لهذا الواقع المرير، فطلب التقاعد المبكر…
وانزوى وحيدًا، ولجأ إلى ما ينسيه هذا الظلم، فأكثر فيه وأفرط، وعاش على بعض مقالاته التي يرسلها للمجلات، ولكن مقالاته
تلك قد تهالكت، كما تهالكت روحه!
فساءت حالته، وانكسرت نفسه، فخبأ بريقه، وذبُل قلمه، فخسرت العربية أديبَا من كبار أدبائها.
** **
- راشد بن محمد الشعلان