«ولاء» فتاة تتخطى الآن منتصف العقد الثاني من عمرها وتنتظر الدخول في العقد الثالث بلهفة غريبة، حتى عندما حاورت شقيقتها أكدت لها بأنني طالما فتشت في خبايا مشاعري فلم أجد السبب المقنع لتلك اللهفة الثلاثينية.
بيد أن «ولاء» تبدي يقينا واضحا متكئا على قوة حجة تجاه من يدعوها : «ولاا».
إذ ترى أن تحقيق الهمزة وخروجها من الحلق يطبع اسمها بشيئ من القوة..
وفي نقاشاتها المحتدمة المكرورة مع شقيقتها التي تصغرها بفارق لا يسمح بإختلاف الرؤى والأفكار طالما أفحمتها بأن اسمها لا ينطقه مهموزا إلا أولئك المثقفون الواثقون من لغتهم وأدبهم. وحتى أعز صديقات ولاا عفوًا «ولاء» لم تكسب ثقتها وتنال إعجابها إلا في إحدى المكتبات العامة عندما كانت «ولاء» صحبة شقيقتها في ممر كتب الأدب بينما الغربية الأخرى وقفت بإزائهم يفصلها عنهم قائم معدني طويل تقطعه أرفف تعرض الكتب على مسارين متظاهرين. وقفت الغريبة تجاه كتب الروايات العربية والمترجمة. ولم تكد تتسقط حديث شقيقة «ولاء» الغاضب المحتقن إثر تجاهل الأخرى لها، حتى انفتلت بداعي الفضول نحو ممر كتب الأدب، لترى المشهد الغريب أمامها: فتاة جميلة باسقة الطلعة ريانة الأعضاء صافية البشرة حادة النظرات، تسرح بطرفها النافذ في كتاب أدبي مدت له راحة شمالها وراحت تتفحص صفحاته العتيقة بيمينها الغضة، متجاهلة نداءات شقيقتها التي بلغت حد الصراخ: «ولاا.. ولاا.. ولاا..!!»
للوهلة الأولى ظنت الغريبة أن شقيقة «ولاء» تعاني مرضا عصريا.
شقيقة «ولاء» التي كان يفصلها عن أختها خطوة واحدة طوتها ملتصقة بها، وهمست في أذنها تكاد تحطم أضراسها تحت وقع الخجل :
«حسبي الله عليك يا ولاا، سيضن الناس أني مجنونة»
تأكدت الغريبة من حرج الصغرى عندما رأت الدماء تتنزى في وجهها الفتيّ فاتقدت كلف وجنتيها تلتمع كمجامر الأعراس.
الغريبة هي الأخرى أحست بالحرج فبادرت تقول : «آسفة، خلتك وحيدة هنا».
حينئذ تفوهت «ولاء» بأولى كلماتها التي ملئت فؤاد تلك الغريبة :
«هلا بك أبد عادي.. هذه أختي وعاقلة وفاهمة بس تحب تشوّه اسمي» وتابعت مبتسمة تدلي بما سيشعل في قلب الغريبة فتيل صداقة أكيدة :
«كأنه رواية عظيمة تنحطم تحت أقلام مترجم سيئ» وختمت إقتضابها الواثق :
«اسمي ولاء وليس ولاا»
حينئذ ابتدرت الغريبة «ولاء» بكلمات انساحت عبر شفاهها إطراء وزهوا وإعجابا بمن أضحت الصديقة الحميمة، وبرغم أنها لم توجه حديثها إلى شقيقة «ولاء» عدا بضع كلمات منها : «فعلا والله ماكنت احسبك تنادين احد عندما قلت: ولاا ولاا... ولاا». ولكن موجات هذا الإطراء لـ» ولاء» كانت ترتد تجاه شقيقتها بما يشبه التقريع والذم.
تبادلت «ولاء» مع صديقتها الحميمة في وقفة طويلة، مايشبه أحاديث الأمالي عن الكتب وشؤونها وعشقهما المضني لذلك العالم. ثم درجتا في ممرات المكتبة تشير كل واحدة إلى كتاب وثيق الصلة بها. بدى جليا في ذلك التعارف الطارئ تفوق «ولاء» الواضح بإقتباساتها القوية والتفاتاتها تجاه الكتب تعلق عليها بحواشٍ شفهية خاطفة.
انتهى ذلك اللقاء المفعم بالإنسجام وتبادل أرقام التواصل.
بعد قليل كانت وجهة «ولاء» إلى سيارتها دون أن تبحث عن شقيقتها. فتشارك السنوات المديد أكسب كل منهما خبرة عميقة بتصرفات الأخرى والتكهن بذهاب أختها إلى المرآب هو اليسير من ثمرات هذه الخبرة التي ترسم أيضا حدود القطيعة أو وضع الكلفة أمام بعض الصديقات، والتباهي تجاه أخريات.
كان تشارك السنوات هذا يتبعه مشاركة الغرفة وحتى سيارة «ولاء» بعد أشهرها الأولى فرضت الأم كحسم لنزاع طارئ أن تحمل كل واحدة منهما مفتاح السيارة حتى لا تنتظر إحداهما الأخرى لتقف كالخادمة على حد تعبير شقيقة «ولاء» .
وقفت «ولاء» أمام باب سيارتها، تلمح شقيقتها في مقعدها المعتاد، ذقنها للأعلى ترفع وجهها بظاهر كفها الأيسر، وبصرها شاخص صوب سقف السيارة. ولم يكن وجهها المصطبغ بألوان المراهقات التي باتت سمة دالة على أعمارهن ليخفي شعورها الحانق.
جلست «ولاء» أمام المقود وألقت تحية خافتة لتجيبها شقيقتها بإلتفاتة عنيفة للناحية الأخرى.
بعد ذلك اليوم الحافل وما إن وصل الشقيقات للمنزل حتى ابتدرت كل واحدة منهما مباشرة شؤونها بصمت، في عالمهم الذي يمثل أقصى درجات الإتحاد فيما بين روحيهما. ذلك العالم الذي لم يمكن سوى غرفة نومهما الخاصة، غرفة الصداقة والآلام والآمال والبوح والسعادة، وأحيانًا الأحلام الواحدة، وكرسي الإعتراف الخشبي أيضاً.
أزاحت «ولاء» رباطا كان يعوق شعرها الفاحم عن الإنسدال فانساب قطعة واحدة على متنها، عابثته قليلا ثم أفلتته واسترخت على مخدتها القطنية يمزقها تأنيب انبعث من أعماق ضميرها عادة مايمتزج بالوساوس في لحظات ماقبل النوم. وانبرت تحاسب نفسها في غيظ وتتساءل :
«هل استحقت أختي كل هذا الصلف؟!»
ودت «ولاء» تحت وقع خلجات ضميرها المأزوم النهوض لإعتناق أختها وتطويقها بذراعيها، ولكنها تعلم في قرارة نفسها بأن الدموع التي بدأت تبلل أهدابها ستطفر إبان محاولتها الإلتفات صوب سرير أختها، ثم تنهمر ساجمة عند العناق.
عدلت «ولاء» عن ذلك ريثما يسكن ضميرها وسحبت لحافها الثقيل تغطي وجهها لتفسح المجال لعبراتها الدافئة وهي تتذكر معلمة الفصل بصوتها الأجش المؤذي تنادي فتاة الصف الأول الصغيرة :
«ولاا»
تقف الصغيرة لتجيب : نعم أستاذة
المعلمة بضحكة خرقاء :
«ولاا.. ولاا..، ولا أحد يتكلم»
فيضج الفصل بضحكات طفولية ذكية تعرف رغبات الأستاذة الفجة!!
** **
- عبدالرحمن موالف