تحتفي المملكة العربية السعودية في الثاني والعشرين من فبراير في كل عام بـ(يوم التأسيس)، بوصفه يوماً يرمز للعمق التاريخي والحضاري والثقافي للمملكة؛ فهو اليوم الذي أسس فيه الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- الدولة السعودية الأولى عام (1139هـ - 1727م)، وفي هذه المقالة سوف نقف عند بعض الإستراتيجيات الحجاجية والإقناعية لخطاب يوم التأسيس معتمدين في ذلك على موقع (يوم التأسيس) على الإنترنت، وكتاب (يوم التأسيس) الصادر عن دارة الملك عبد العزيز، الرياض، 1444هـ.
يعدُّ يوم التأسيس استذكاراً لامتداد الدولة السعودية لأكثر من ثلاثة قرون متتالية، وإبرازاً للإرث الثقافي المتنوع، ووفاءً لمن أسهم في خدمة الوطن من الأئمة والملوك والمواطنين، فهو مناسبة وطنية مجيدة للاحتفاء بذكرى تأسيس الدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود؛ الذي أسس كياناً سياسياً، عاصمته الدرعية، وبذلك تحقق لهذه الدولة العظيمة الوحدة والاستقرار والازدهار.
لقد حفل خطاب (يوم التأسيس) كغيره من الخطابات الإنسانية بكثيرٍ من الإستراتيجيات الحجاجية التي تهدف إلى توجيه المتلقي وجهة مقصودة، تتمثل في الإقناع والتأثير والدعوة إلى الاحتفاء بذكرى التأسيس، والاعتزاز بالانتماء لهذا الوطن الشامخ العزيز، ومن أهم تلك الإستراتيجيات ما يلي:
- حجاجية التعريف:
للتعريف في الدرس التداولي أثر كبير في تماسك الخطاب وانسجامه، ومن ثَّم حمل المخاطَب على العمل بما يقتضيه مضمون الخطاب، فالتعريف عمل قولي حجاجي يسعى إلى توجيه المتلقي، وحمله على فعل ما يجب فعله، وترك ما يجب تركه، وهو -أيضاً- عمل استدلالي، ومقتضى تداولي يوصل إلى النتيجة المقصودة بأيسر طريقة، ومن أمثلته، تعريف (يوم التأسيس)، فهو «مناسبة وطنية؛ للاعتزاز بالجذور الراسخة للدولة السعودية، واستذكار تأسيسها على يد الإمام محمد بن سعود منذ أكثر من ثلاثة قرون، وما حققته من الوحدة والأمن والاستقرار، واستمرارها في البناء والتوحيد والتنمية». ونلاحظ في التعريف السابق الاتكاء على كثير من الإستراتيجيات الخطابية الإقناعية، كالعمل الوصفي (مناسبة وطنية، الجذور الراسخة)، والعامل الحجاجي (للاعتزاز، استذكار)، والروابط الحجاجية الاستدلالية (الوحدة والأمن والاستقرار، البناء والتوحيد والتنمية)، وهذا كل راجع إلى قصدية المتكلم، وتخصيص المعرَّف بمزيد عناية واهتمام؛ لإلزام المتلقي بالاحتفاء بهذا اليوم المجيد، فالتعريف عند التداوليين عمل قولي إلزامي، وهو بمنزلة المقدمة في الاحتجاج والإقناع.
- حجاجية السرد الواقعي:
للقص الواقعي المرجعي تأثير كبير في إقناع المتلقي، وحمله على إنجاز فعل الإعجاب والفخر والاعتزاز بأئمة الدولة السعودية وحكامها وملوكها الكرام؛ ففي(جذور التأسيس) أخبار تاريخية مرجعية عن تأسيس عشيرة المردة من الدروع من بني حنيفة مدينة شرقي الجزيرة العربية على ساحل الخليج العربي، اطلقوا عليها اسم (الدرعية) نسبة إلى العشيرة، و»قد انتقل مانع بن ربيعة المريدي الحنفي، وأفراد عشيرته من الدرعية في شرق الجزيرة العربية إلى وسطها؛ لتأسيس الدرعية الجديدة عام (850هـ-1446م)، وقد عبر خلال رحلته من شرق الجزيرة العربية رمال الدهناء القاحلة مؤمناً بشخصيته المستقلة الراغبة في تأسيس دولة واسعة، تحقق الأمن والاستقرار، وهو ما أورثه ذريته من بعده»، إن هذه الصفات العظيمة للأمير مانع المريدي تدعو المتلقي إلى إنجاز عمل التمجيد والاعتزاز بالدولة السعودية المجيدة، «فقد كان قدوم مانع اللبنة الأولى لتأسيس أعظم دولة قامت في المنطقة في تاريخ الجزيرة العربية بعد دولة النبوة والخلافة الراشدة».
وفي خطاب (يوم التأسيس) حديث مفصل عن سيرة الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى؛ وهذه السيرة العطرة عمل استدلالي موصل إلى نتائج محددة؛ فالمتلقي ملزم بأن يقتنع بما استنتج، وهو بذلك شريك في إنتاج المعنى، فيكون الخطاب السيري عندئذٍ أشدّ تأثيراً وإقناعاً.
إن سيرة الإمام محمد بن سعود عمل استدلالي يقود إلى تعظيم وإجلال وتقدير مؤسس الدولة السعودية الأولى الذي «نشأ وترعرع في الدرعية، واستفاد من التجربة التي خاضها في شبابه حين عمل إلى جانب والده في ترتيب أوضاع الإمارة، وهو ما أعطاه معرفة تامة بكل أوضاعها...عُرف عنه صفات متعددة، كالتدين، وحب الخير، والشجاعة، والقدرة على التأثير. كان محمد بن سعود امتداداً لتاريخ أسلافه الذين بنوا الدرعية وحكموها، وانتقل بها من دولة المدينة إلى دولة واسعة».
إن هذا الخطاب السيري إستراتيجية سردية تداولية ضمنية تحمل المتلقي على الإعجاب بشخصية الإمام محمد بن سعود الذي كان «حاكماً حكيماً وفياً، تربى في بيت عز وإمارة، وتعلم السياسة وطرق التعامل مع الإمارات المجاورة والعشائر المتنقلة...كان محباً للخلوة والتأمل والتفكر، وهو ما يدل على شخصيته في الاستقراء والتأني والرؤية المستقبلية». إن هذا الخطاب السيري الحجاجي يؤكد الوظيفة الإقناعية التأثيرية التصديقية في شخصية الإمام محمد بن سعود، ويرسم المسار الاستدلالي للملفوظ السيري، وهو عظمة الإمام محمد بن سعود، وقدرته الكبيرة في القيادة والرياسة والحكم.
ومما يعطف النظر في الخطاب السيري للإمام محمد بن سعود أنه خطاب مفتوح على المضمر والخفي والضمني، فهو يثبت وظيفتين حجاجيتين: الإقناع الذهني بسياسة الإمام وحكمته وحنكته، والحمل على العمل بهذه السيرة الكريمة، بوصفها دستورا ونبراساً في القيادة والحكم.
إن سيرة الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى عمل قولي وصفي محيل على الصدق في القول والعمل؛ لذلك عدد المتكلم أهم أعماله، ومنها: «توحيد شطري الدرعية، وجعلها تحت حكم واحد بعد أن كان الحكم متفرقاً في مركزين-الاهتمام بالأمور الداخلية، وتقوية مجتمع الدرعية، وتوحيد أفراده -تنظيم الأمور الاقتصادية للدولة- نشر الاستقرار في الدولة في مجالات متنوعة- الاستقلال السياسي، وعدم الولاء لأي قوة-التواصل مع البلدات الأخرى للانضمام للدولة السعودية، وقدرة الإمام الكبيرة على احتواء زعاماتها، وجعلهم يعلنون الانضمام للدولة والوحدة».
إن هذه الأعمال الخالدة لمؤسس الدولة السعودية الأولى أعمال قولية مؤدية إلى نتيجة ضمنية يستنبطها المتلقي نفسه؛ لذلك تكون أبلغ أثراً من النتيجة المصرح بها، وهذا ما جعل صاحب الخطاب يعدد أهم إنجازات الإمام محمد بن سعود: «تأسيس الدولة السعودية الأولى، توحيد الدرعية تحت حكمه، والإسهام في نشر الاستقرار، الاستقلال السياسي، وعدم التبعية لأي نفوذ، تنظيم موارد الدولة، بناء سور الدرعية؛ للتصدي للهجمات الخارجية، مناصرة الدعوة الإصلاحية وحمايتها، التصدي لعدد من الحملات ضد الدولة، تأمين طرق الحج والتجارة، الحرص على الاستقرار الإقليمي، توحيد معظم منطقة نجد»، إن هذه الإنجازات الخالدة توجه المتلقي وجه مقصودة، وتحمله على الاقتناع بحسن سياسة الإمام محمد بن سعود في إدارة البلاد ومصالح العباد.
- حجاجية الخطاب الإشهاري:
يهدف الخطاب الإشهاري في الدرس التداولي إلى إقناع المتلقي والتأثير فيه؛ لذلك يعتمد في الغالب على البراهين العقلية والحجج المنطقية، فتأتي التراكيب الإشهارية موجزة موحية، والرسالة الإشهارية عمل تواصلي إقناعي، يسعى إلى التواصل مع المتلقي، وتبليغه قصدية الخطاب؛ رغبة في حمله على الإنجاز والفعل.
وقد جاء الخطاب الإشهاري في (يوم التأسيس) على صورة شعار مكون من رمز ونص، ويحوي الرمز: العَلم السعودي، والنخلة، والصقر، والخيل العربية، والسوق، وهي «خمسة عناصر جوهرية، تعكس تناغماً تراثياً حياً، وأنماطاً مستمرة، هي رموز شعار التأسيس». أما النص، فقد استلهم خط الشعار من «نمط الخط التاريخي الذي كُتبت به إحدى المخطوطات التاريخية التي تؤرخ أحداث الدولة السعودية الأولى». إن هذه الهوية البصرية خطاب إشهاري تداولي يرمي إلى إيصال رسائل موجهة، برؤية عصرية جديدة؛ لإبراز التنوع الثقافي في الدولة السعودية الأولى التي أسسها محمد بن سعود عام 1727م، وفي ذلك دعوة للمتلقي إلى الاحتفاء بهذا الشعار المبارك، والمحافظة عليه، والاعتزاز به، بوصفه أداة تواصل بين أفراد المجتمع، وخطاباً حجاجياً يروم الإقناع والتأثير والحمل على الفعل والعمل.
- حجاجية الشاهد:
يعد الشاهد من أهم الإستراتيجيات الحجاجية التي تهدف إلى الإقناع والتأثير في المتلقي، فالشاهد من أقوى الحجج والبراهين التي تؤكد الفكرة وتقويها، وقد جاء الشاهد في خطاب (يوم التأسيس) في كلمات القيادة السعودية بدءاً من الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- وانتهاءً بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله- ثم بصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد -رعاه الله- ومما جاء في كلمة الملك سلمان بن عبد العزيز-حفظه الله-:»نعتزّ بذكرى تأسيس هذه الدولة المباركة في العام 1139هـ (1727م)، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم؛ أرست ركائز السلم والاستقرار وتحقيق العدل. وإن احتفاءنا بهذه الذكرى؛ هو احتفاءٌ بتاريخ دولة، وتلاحم شعب، والصمود أمام كل التحديات، والتطلع للمستقبل، والحمد لله على كل النعم». إن سلطة الشاهد الحجاجي السابق مرتبطة بمنزلة صاحبها ومكانته في قلوب الشعب، وهو خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- لذلك تعدّ أعلى مراتب الإقناع والتأثير.
وجاءت كلمة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان –رعاه الله- لتؤكد أهمية الاحتفاء بهذا اليوم المجيد الذي يعبر عن قوة محبة المواطنين لدولتهم وقيادتهم الحكيمة، يقول ولي العهد-حفظه الله-:»لدينا عمقٌ تاريخي مهم جداً، موغل ٌبالقدم ، ويتلاقى مع الكثير من الحضارات. الكثير يربط تاريخ جزيرة العرب بتاريخ قصير جداً، والعكس أننا أمة موغلة في القدم».
وفي الختام، أبارك لمقام سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله- ولسمو سيدي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان -رعاه الله- في مناسبة (يوم التأسيس)، وأسأل الله أن يحفظ قيادتنا وبلادنا، وأن يديم علينا نعمة الأمن والأمان والرخاء.
** **
د. قالط بن حجي العنزي - باحث في السرديات التداولية
@qalit2010