يسهم الفضاء السرديّ في رسم معالم النص الروائي وتحديده، وبناء الشخصية السردية من خلال علاقتها بذاتها و بغيرها من الشخصيات، وبمختلف العناصر التي تشكل عوالم النص. سواء من حيث الاتصال أو الانفصال المادي أو المعنوي. لعل هذا ما يؤشر عليه العمل الروائي الأخير للروائي السعودي خالد اليوسف «ارتحالات يعقوب النجدي»، الصادر في طبعته الأولى عن مؤسسة الانتشار العربي (الإمارات العربية المتحدة)، 2023، في241 صفحة، من القطع المتوسط. حيث يتحدد فيه الفضاء بشكل بارز، ويعرف نوعا من التحول من خلال الارتحالات المتعددة للشخصية المحورية (يعقوب النجدي). سواء كانت هذه الارتحالات إلى الفضاءات الجديدة المتعددة، أو إلى مخزون الذاكرة من خلال العديد من الاسترجاعات. منحت هذه الارتحالات دينامية خاصة بالنسبة للشخصية (الشخصيات)، وامتدادات عدة للفضاء. حيث يزج السارد (شخصية يعقوب النجدي) بالقارئ في دوامة هذه الارتحالات التي يتدرّج فيها بصعوبة نحو مدارج الحدث السردي وطبقاته، والفضاءات التي تتفتّح منذ عتبة النص الرئيسية/ العنوان حتى آخر صفحة في المتن السردي للرواية.
عتبة النص السردي
تتألف عتبة النص الرئيسية «ارتحالات يعقوب النجدي»، من ثلاث مفردات أساسية. تتجلى الأولى في « ارتحالات» باعتبارها جمعا(خبر لمبتدأ محذوف. تقديره : هذه)، تؤشر على السفر وتجدد الفضاء، و«يعقوب» اسم علم مذكر مضاف إلى هذه الارتحالات. لكن المفردة الثالثة للعنوان «النجدي»، التي جاءت نعتا لمفردة يعقوب، تحددها باعتبارها ذات أصول نجدية. لهذا، يمكن إعادة صياغة عنوان الرواية ليصبح» هذه ارتحالات يعقوب النجدي». مما يجعل هذه العتبة الرئيسية تحيل على الشخصيات التي تجمّعت في محور واحد تجمعها المفردة الثالثة للعنوان «النجدي»، لتلفّ الشخصيات المحورية للرواية بعباءة واحدة هي سمة «النجدية» التي تحيل على مرجعيات رمزية وتاريخية وحضارية وثقافية وإنسانية متداخلة ومتضافرة ومتعاضدة لا حصر لها. لكن هذه المرجعيات كلّها تتكثّف وتتجمّع في بؤرة واحدة داخل متن الرواية، لتتمثّل في الشعور بالانتماء والارتباط بالفضاء /الوطن، والأصل / الانتماء العائلي. حيث تأخذ من صفة هذا الانتماء، الكثير من المعاني والدلالات التي تتجلّى على نحو عميق على طول المسار السردي لهذا النصّي.
الفضاء بين الانفصال والاتصال
حين استعار غريماس/Greimas مصطلحي الانفصال/الاتصال من المنطق الرياضي، برهن من جهته على أن كل من المستويين، يحدث في مجال الشخصية والفضاء(1). لهذا، اعتبر أن وظائف الرحيل/ الانتقال، ترتبط بالانفصال. أما وظيفة العودة فاعتبرها شكلا للاتصال بين الشخصية والفضاء. لكن بالمقابل، نفى ميخائيل باختين العلاقة العضوية بين الفضاء والزمان واعتبرها مجرد علاقة تقنية ميكانيكية(2). مما يجعلنا نستنتج أن الاتصال والانفصال، يمكن أن يحدثا في آن واحد عبر حذف الزمن. لهذا، فإن الرحيل من زليفات (عطوة/ عقلة الطين) بالنسبة لشخصية يعقوب حمود إلى المدينة الكبيرة (الرياض)، لا تقابله العودة من هذه المدينة الكبيرة إلى الفضاء الأصل (عطوة/ زليفات). لأن كل هذا خاضع لاعتبار أي الفضاءين يمكن أن يشكل المكان البؤرة في نص «ارتحالات يعقوب النجدي» . وذلك في محاولة للاقتراب من قانوني الطاقة السردية العزلة/العلاقة، من خلال مفهومين شكليين هما الانفصال/الاتصال. الانفصال عن فضاء قرية عطوة/زليفات، والاتصال بفضاء جديد(فضاء الرياض، الكويت، العراق، القاهرة) باعتبارها فضاءات حسية، تتحول إلى فضاءات إيحائية. إنه تحول من العزلة/ الانفصال عن عالم ثابت، إلى حالة من الاتصال بالفضاء الجديد. ذلك أن قيام الوظيفتين في آن واحد (بشكل مزدوج)، يؤدي إلى اختراق التضاد الواقعي لهما. مما يجعل الأشياء (مكونات الفضاء) تحصل على رمزيتها وهي تملأ فضاءها/ مجالها بالتأثير. فإذا كان فضاء مدينة الرياض، مسرحا للعمل (التجارة)، فإنه بالمقابل كان ضمن زمن الرواية مسرحا للتوقع والانتظار والترقب. مما يجعل المتلقي يواجه (بشكل ضمني)تساؤلات السارد (الروائي الضمني/خالد اليوسف): هل يكتب الروائي عن الفضاء المرئي، أم يكتب عن فضاء آخر (خفي، استعاري)؟ هل تسعى الشخصية للعيش فيه، أم يجب أن تحلم لكي تعيش فيه وتعيش من خلال الذاكرة المرتبطة بالفضاء ؟ وإذا كان المبدع يحيا في الفردوس الخفي، في اللا مكان، فما هي طبيعة هذا الملكوت؟ أين يتموقع هذا اللا مكان، في رقعة الوجود المرئي؟ هل لهذا المكان ملامح الوجود في عالم المحسوس، أم أن مكانه الحقيقي في العالم الذي يقع وراء المكان، و وراء الوجود المحسوس؟(3). بهذه الرؤية الفنية المنبثقة عن هذه الأسئلة، يحيك الروائي خالد اليوسف نسيجه النصي الهجين مرورًا بإراثة الأماكن رسمًا ووصفًا (فجذبت أنظارنا الطرقات الواسعة، وترامي المساكنهنا وهناك، شيئا فشيئا، على أن دخلنا قلب العارض. فوقفت المركبة في سوق كبير، تعلو فيه أصوات الباعة، والناس فيه تضطرب حركتهم، ويحملون بأيديهم مشترياتهم) تقول شخصية يعقوب في الصفحة :49. لتعانق شخصية يعقوب النجدي و باقي الشخصيات المرافقة لها ( شخصية موسى البرق، شخصية موسى المطوع) فضاءات جديدة غنية بالألوان والمفارقات. يمتزج فيها: الماضي بالحاضر، المقدس(المسجد/ ص: 29، 30 ، 59، 65) بالمدنس(منزل الجارة/ ص: 68، 69، 71، 73)، الحضري (الرياض، الكويت، العراق، القاهرة، ..الخ) بالبدوي ( قرى زليفات). ليرسم السرد في هذا النص الروائي، شوارع المدينة التي تحملها الشخصيات السردية معها في حلها وارتحالها (شخصية يعقوب). كما أن تكرار رموزها، يرسم بيان الرحلة المحرض على الكتابة في التواتر وفي التوارد. مما يجعل كل بصمة فضاء جديد، تمهر زوايا كل صفحة من هذا النص السردي. متحسسة خط طوافها و طواف الكاتب المتعهد بنسخها(4). وإذا كان نص الروائي خالد اليوسف لا يكتفي بارتياد المجتمع السعودي المعاصر(الرياض، الخفجي... إلخ) فحسب، بل يمتد إلى مجتمعات عربية أخرى(الكويت، العراق، مصر)، فإن وجه المدينة الأول/ العتيق (بلدة عطوة/ زليفات)، لا يتجلى في هذا النص الروائي إلا باعتباره بناء محفورا في ذاكرة السارد/شخصية يعقوب النجدي(البيوت الطينة/عقلة الطينة)، صحارى نجد الشاسعة، بلدة عطوة، أراضي آل رضيع ونخيلها، ... إلخ.
تشكل هذه العناصر وهي مجتمعة، العالم السردي الحقيقي والمتخيل لنص «ارتحالات يعقوب النجدي». فكل مواقع الانقطاع والارتحال والعزلة، تنبثق عن قالب النشوء البدئي بالنسبة لشخصيات الرواية. كما أن كل آفاق البحث عن بناء الذات بالتماس الفضاء الطوباوي (الممكن)، هي أصيلة لبؤر مؤمكنة. سواء بمعية شخصية الأب (ولهذا فبمجرد أن طلب مني أبي مرافقته في إحدى رحلاته، وافقت مباشرة على الرغم من صغر سني، إذ كنا في السادسة من عمري، فقد كانت الرغبة في الخروج تلح علي، وبودي معرفة أي أرض وعالم آخر) ص: 22، أو بمعية الإخوة (في هذا العام قررت الهروب من زليفات، واخبرتهم جميعا أننا بعد أن يسود بلدتنا الظلام الدامس، ويسيطر الليل عليها سنغادر إلى العارض) ص: 26. لذلك، فإن فضاء المدينة بالنسبة للشخصية عبارة عن فضاء (التمثيل المركب. المدينة فيه ما هي إلا صدى لمدن أخرى، وهي لا تحيا إلا إذا تنفست حضورها الكلي الذي يميزها عن مكانها الوجودي)(5). لهذا، تتفلّت عوالم الارتحال في هذا النص السردي، على شكل خيوط دلالية، تنساب وتنسدل من جوف وتخوم وإيقاع عتبتي العنوان (ارتحالات يعقوب النجدي) على نحو تشكيلي بطيء ولافت. تضع القارئ أسير فضاء قرائي بالغ التحول واللا محدودية الفضائية والتحفّز والخوف وسرعة التواصل مع الحراك الزمني السردي في الحدث الروائي. بحيث يجد نفسه محدداً ومقيداً بمواجهة كل شيء في العمل، وعليه بإزاء ذلك أن يتهيّأ لمواجهة قرائية يشوبها الترقب ويغطيها الضباب . لأن الاتصال بفضاءات جديدة من قبل السارد/ شخصية يعقوب النجدي، تضع آفق انتظار المتلقي أمام احتمالات عدة.
دينامية الشخصية وامتدادات الفضاء
تتميز رواية «ارتحالات يعقوب النجدي» بخارطة شخصيات نوعية فرضتها طبيعة المادة المسرودة، وتشتغل شبكة الشخصيات في سياق تكاتف شخصاني ملتحم على نحو شبه دائري، تتحرّك فيه ضمن بؤرة مكان تدعم هذا التكاتف وتسوّغه وتجيب على معظم أسئلته. حيث تعدّ شخصية «يعقوب النجدي» مركز هذه الشخصيات ومحورها ومحرق حراكها السردي وتجلياتها المشهدية. أما الشخصيات الأخرى المؤثثة لفضاء الشخصيات المتعددة في الرواية في نطاق التجاور والتعاضد والتوازي والتخالف في سياق الروابط العلائقية بينها فتتميز بسكونيتها، باستثناء الشخصيات المرتبطة بشكل وثيق بالشخصية المحورية/ شخصية يعقوب النجدي « موسى البرق/ موسى المطوع/ موسى الرملة/ شخصية الأب/ شخصية فضيلة. لكونها تدور في وضعها وتشكيلها تبعا لحركة وحضور الشخصية الرئيسة «يعقوب النجدي»، التي تبدو وكأنها بؤرة الفعل السردي بوظائفه كافة. لهذا، فإن الفضاء هو الآخر شهد قدراً واسعاً وعميقاً من الكثافة المكانية المحتشدة في بؤرة معينة، واتسم بعدم محدوديته في البناء والتصوّر والوصف والعمل. ليعرف نوعا من الامتداد تبعا لدينامية الشخصية الرئيسية و باقي الشخصيات التي تدور في فلكها. مما جعل الأماكن المعلنة والمسمّاة في النص الروائي بأسمائها، وذات الطبيعة المرجعية الواقعية المعروفة، والموسومة بـ«زليفات وقراها/ الرياض / الخفجي/ الأسواق (السعودية) »، تشهد الحركة الدائرية للسرد الروائي في فاعلية استدراج المحكي واسترجاع تاريخيته ومضمونه على نحو بالغ القصدية. يذهب بالرواية أحيانا إلى منطقة تعبير وتشكيل خاصة. يتحول فيها هذا النص السردي إلى «رواية سيرة مكانية/ سيرة شعب» في الوقت نفسه. لهذا، تشتغل رواية» ارتحالات يعقوب النجدي» في تبئيرها السردي على شبكة آليات تقليدية وحداثية في الوقت نفسه. تلتئم في سياق واحد من أجل احتواء تجربتها والتعبير عن مقولتها. لكونها رصدت فضاء الانفصال/العزلة والحنين باعتباره الفضاء الأول للشخصية المحورية (شخصية يعقوب) المتجلي في فضاء قرى زليفات وبيوتها الطينية، من خلال الوصف والسعي إلى تكثيف الأمكنة وتركيزها وتكريس وجودها التاريخي والجغرافي والإنساني والروحي، بوصفها شبكة متراصّة ومتداخلة من التقتيات والآليات السردية التي أسهمت على نحو فعّال في بناء الرؤية السردية العامة لشخصية يعقوب (لم يكن يعقوب يعلم أن بلدته عطوة الصغيرة الواقعة في شمال بلدات زليفات لها،مثيل في مساحات مجاورة، كان يعتقد أن بلدته هي كل شيء في حياته، أرض عطوة لا مثيل لبيوتها الطينية المتلاصقة، ولا نخيلها السامقة في أيام الارتواء والعطاء والاخضرار) ص: 14. كما أن فعالية استرجاع سرّ حكاية قرى زليفات وناسها في نهاية النص الروائي(بداية النص: ص: 14، 15، نهاية النص: 236)، أسهم في تشكيل رؤية دائرية. سواء على مستوى الحدث أو الزمن الروائي. لهذا، فعلى الرغم من وجود سياق خطي سردي للحكاية، فإن السارد العارف بكل التفاصيل الحكائية لهذا النص السردي، حسب تزفيطان تودروف(5)، اعتمد على المشاهد السردية بصورة مونتاجية من خلال الوصف أو الحوار، ووظفهما بقوّة في السياق العام لفاعلية السرد الروائي داخل المتن. كما تجلى في مشاهد حركية الأسواق (سوق المقيبرة/ ص:51، سوق البطحاء، ص: 73) وبيوت الضيافة (بيت شخصية موسى الرملة، ص: 84)، بكل ما تنطوي عليه المشاهد وما تعكسه وما توحي به من حساسيات ورؤي وأفكار وقيم وحالات. لكن هذه الرؤى التي تتنوع بتنوع الفضاءات، تجعل الشخصية المحورية للرواية ( شخصية يعقوب النجدي) حبيسة هذه الفعالية السردية لهذا النص السردي الكثيف، وكأنها رهينة مركزية من رهائن الترحال وتغيير الفضاءات.
لهذا، تشتغل مختلف الحكايات الجزئية المشهدية لهذا النص الروائي، بوصفها حكايات عنقودية. تلتئم في سياق السرد الروائي العام، لتغذّي عمود السرد الروائي بمزيد من فاعلية السرد، على نحو كثيف ومعمّق، من أجل أن تفرغ حمولتها الحكائية داخل النسق العام لمسار السرد في الرواية. مما أثر على البنية الزمنية للرواية التي تميزت في بعض مقاطعها السردية بنوع من الخطية بالنسبة للحدث(الرحلة). مما جعل إيقاع السرد بطيئاً وقليل الانسياب، يوازي نمو وتطور شكل الحكاية ومضمونها من جهة، ويستجيب لأنموذج الخطاب في اتجاهه المستقيم نحو منطقة التلقي من جهة أخرى. لهذا، فإنّ الفضاء السردي المتشكّل في رواية « ارتحالات يعقوب النجدي»، يلامس فضاء المنحى القصصي الضيق و المحدود، أكثر ملامسته الفضاء الروائيّ الشاسع. لأنّ الحدث تميز فيه بنوع من المحدودة. كما ظلت حكاياته على مستوى المسار السردي للرواية، مسيجة داخل دائرة شبه ثابتة. حيث برز السرد في بعض مقاطع الرواية، وكأنه يدور حول نفسه بفعالية تهيمن عليها الرتابة.
لكن على الرغم من ذلك، فإن نص «ارتحالات يعقوب النجدي» يكشف من خلال سياق طاقاته التشكيلية المعبّرة عن روح الفضاء والزمن والحدث والحكاية، عن توظيف فعّال ومثمر سردياً لجماليات السرد الروائي الحديث، الذي تجسد أساسا في حساسية النص وتحولات الحكاية (من خلال الارتحال) على نحو أصيل داخل الوحدات السردية والوصف الروائيّ. حيث شكلت حكايات الرواية، وامتداداتها في الفضاء النصي التخييلي منه والواقعي، جذورا غائرة في أعماق الذاكرة والتاريخ على السواء.
الإحالات
الصفحات المشار إليها مأخوذ من:
اليوسف (خالد) ارتحالات يعقوب النجدي (رواية)، ط1، مؤسسة الانتشار العربي، الإمارات العربية المتحدة، 2023
(1) GREIMAS(A, J) Sémantique structurale, Paris, PUF, 2002,p : 87 (2) BAKHTINE(Mikhaïl) Esthétique et théorie du roman , Paris, Gallimard, 1999 .
p :65(3)
BACHELARD(Gaston)La terre et les rêveries de la volonté, Paris, José Corti, 2004 , p :12
(4) النصير (ياسين) الرواية و المكان، ط2، دار نينوى، سوريا،2010، ص: 121
(5) دو بوفوار (سيمون) نحو أخلاق وجودية، ترجمة: جورج طرابيشي، ط1، دار الآداب، بيروت، 1965، ص:94
(6) ناجي (مصطفى) نظرية السرد، ط1، منشورات الحوار الأكاديمي، المغرب، 1987، ص: 13
** **
سعيد بوعيطة - المغرب