إنَّ من الأمور الحسنة والفوائد المستحسنة أن يعلم المسلمُ المسائل والفوائد المتعلِّقة بأمور دينه؛ ذلك أنَّ تعظيم شعائر الله من أمور الدين، ولا سِيَّما بيت الله وقبلة المسلمين، زادها الله إكرامًا وتعظيمًا، وتشريفًا وتقديسًا؛ ولمَّا كانت الكعبة المُشرَّفة هي بيت الله العتيق، ومهوى أفئدة الناس ومقصدًا للآتي من كلِّ فجٍّ عميق؛ حسُن أن يعلم كلُّ عاكفٍ فيه وبادٍ، ما لهذا البيت من تسميات متعلِّقة بأجزائه وأركانه؛ إذ إنَّ في بعض تلك التسميات خلافات مسطورة، وأقوال مذكورة، رأينا أن نوردَ منها في هذا المقال ما يتعلَّق بتسمية: «الحطيم»، وتحديد مكانه؛ فأقول وبالله التوفيق:
إنَّ المقصود بالحطيم: هو المكان المعروف المشهور بجانب الكعبة المُشرَّفة، ممَّا يلي الميزاب، شمال الكعبة المُعظمَّة، وهو المكان المحوط المُدوَّر على شكل نصف دائرة، و يفصله عن جدار الكعبة فتحتان من طرفيه الشرقي والغربي؛ للدخول إليه والخروج منه.
وقد ذكرت المصادر عِدَّة تسميات للحطيم، ومن تلك التسميات: الحِجْر، وحِجْر الكعبة، وحِجْر إسماعيل عليه السَّلام، والجِدَار، والجَدْر، والحظيرة؛ وكلُّ هذه الأسماء للحطيم محفوظة في كتب العلماء من مختلف العلوم، ككتب التفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ، وغيرهم؛ وإليك بيانَ كلِّ تسمية منها:
الاسم الأول: الحجر
الحِجْر في اللغة: هو المنع من التَّصَرُّف، وكلُّ ما حَجَرْتَه من حائطٍ فهو حِجْر؛ والمقصود هنا: حِجْر الكعبة، وهو الحائط المستدير إلى جانب الكعبة الغربي.
وقد وَرَدَ ذِكْر (الحِجْر) بهذا الاسم في أحاديث كثيرة، عند البخاري (ت: 256هـ)، ومسلم (ت: 261هـ)، منها: حديث جابر بن عبد اللَّه، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ، قُمْتُ فِى الْحِجْرِ، فَجَلاَ اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ».
كما وَرَدَ بهذا الاسم على لسان أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنَّها قالت: «ما أبالي صلَّيت في الحِجْر أو في الكعبة».
الاسم الثاني: حجر الكعبة
وقد وَرَدَ ذِكْر (حِجْر الكعبة) بهذا الاسم في عِدَّة مصادر، منها: ما ذَكَره الإمام البخاري (ت: 256هـ) في «صحيحه»، بأنَّ عروة الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشدِّ شيءٍ صنعه المشركون بالنَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم! قال: «بينا النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يصلِّي في حِجْر الكعبة، إذ أقبل عُقبة بن أبي مُعَيْطٍ، فوضع ثوبه في عُنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكرٍ حتَّى أخذ بمنكبه ودفعه عن النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم، قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} الآية».
كما وَرَدَت هذه التسمية على لسان ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال المُؤرِّخ تقي الدين الفاسي (ت: 832هـ): «وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «الحطيم: الجدار»؛ قال المحب الطبري: يعني جدار حِجْر الكعبة».
الاسم الثالث: حجر إسماعيل
وقد وَرَدَت هذه التسمية على لسان كثير من علماء الفقه والتاريخ، منهم: الفقيه الباجي (ت: 474هـ)، والمُؤرِّخ تقي الدين الفاسي المكي (ت: 832هـ)، وغيرهما؛ ولم أقف عليه مسندًا.
وقد نبَّه العلَّامة عبدالمحسن العباد على خطأ هذه التسمية، بقوله: «وبعض الناس يقول عن هذا الحِجْر: إنَّه حِجْر إسماعيل؛ وهذا غير صحيح، فليس بحِجْر إسماعيل؛ فإسماعيل وأبوه إنَّما بنيا هذه الكعبة على التمام، فليس هناك حِجْر لإسماعيل، ولكن هذا الحِجْر عملته قريش لما اختصرت الكعبة، وتركت جزءًا لم تبنه؛ لأنَّ النفقة قصَّرت بها، فعملوا حاجزًا حِجْرًا؛ حتى يحجر ويمنع الناس من أن يصلوا فيه -أي: الفرض- وكذلك حتى يطوفوا من ورائه؛ فهذا هو أصل الحِجْر، وليس كما هو مشهور عند الناس أنَّه حِجْر إسماعيل؛ فأكثر الحِجْر هو من جملة الكعبة».
وكذلك نبَّه العلَّامة بكر أبو زيد (ت: 1429هـ) رحمه الله، على ذلك بقوله: «ذكر المُؤرِّخون والإخباريون، أنَّ إسماعيل بن إبراهيم عليهما السَّلام مدفون في الحِجْرِ من البيت العتيق؛ وقلَّ أن يخلو من هذا كتاب من كتب التاريخ العامة، وتواريخ مكة -زادها الله شرفًا- لذا أُضيف الحِجْر إليه؛ لكن لا يثبت في هذا كبير شيء؛ ولذا فقُلِ: الحِجْر؛ ولا تقل: حِجْر إسماعيل؛ والله أعلم».
ويحسُن التنبيه على أنَّ هذه الرواية التي وَرَدَت في تواريخ مكة، والتي قلَّ أن يخلو منها كتاب من كتب التاريخ العامة، وتواريخ مكة -كما قال العلَّامة بكر أبو زيد رحمه الله- بأنَّ في الحِجْر قبر إسماعيل عليه السَّلام؛ أنَّها رواية لا تصح، وقد بيَّن ضعفها جماعة من أهل العلم، منهم: الحافظ السخاوي، والعجلوني، والفتني، وغيرهم؛ كما حقَّق هذه الرواية وبيَّن ضعفها ونكارتها شيخنا العلَّامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، وكذا حقَّق هذه الرواية أيضًا وبيَّن ضعفها ونكارتها شيخنا العلَّامة الدكتور وصي الله عباس حفظه الله، في كتابه: «المسجد الحرام تاريخه وأحكامه».
الاسم الرابع: الجِدار
الجدار في اللغة: هو الحائط؛ والمقصود به هنا: حِجْر الكعبة().
وقد وَرَدَ ذِكْر (الجِدَار) بهذا الاسم على لسان الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنه في قوله: «الحطيم: الجدار»، وكذلك وَرَدَ ذِكْر (الجِدَار) من كلام المحب الطبري في شرحه لأثر ابن عباس رضي الله عنه بقوله: «يعني: جدار حِجْر الكعبة».
الاسم الخامس: الجدر
الجَدْر: بفتح الجيم وإسكان الدال المهملة، هو الحائط؛ وقد بيَّن العلَّامة الخليل الفراهيدي (ت: 170هـ) أنَّ الجَدْر لغة في الجدار؛ والمقصود به هنا: حِجْر الكعبة، أو أصل جدار حائط البيت، كما سيأتي؛ ووَهِمَ مَن ضبطه بالضمِّ.
وقد وَرَدَ ذِكْر (الجَدْر) بهذا الاسم في عِدَّة مصادر، منها: ما ورد في «الصحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سألتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم عن الجَدْر: أَمِنَ البيت هو؟ قال: «نَعَمْ»، قلتُ: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: «إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ»، قلتُ: فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال: «فَعَلَ ذَاكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا؛ وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ؛ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ، وَأَنْ أَلْصِقْ بَابَهُ فِي الْأَرْضِ».
وقد وَرَدَ ذِكْر (الجَدْر) بهذا الاسم في أثر ابن عباس رضي الله عنه: «من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر، ولا تقولوا: الحطيم»، زاد في بعض الروايات: «ولكنَّه الجَدْر، وهو من البيت».
الاسم السادس: الحظيرة
الحظيرة في اللغة: المحيط بالشيء، سواء كان خشبًا أو قصبًا، ومنها الحظيرة التي تُعمل للإبل والغنم والخيل من شجر؛ لتقيها الريح والبرد؛ والمقصود هنا: حِجْر الكعبة.
وقد وَرَدَ ذِكْر (الحظيرة) بهذا الاسم في عِدَّة مصادر، منها: ما ورد في كتاب «الفتوحات الربانية على الأذكار النووية» لابن عَلَّان المكي (ت: 1057هـ): «الحِجْر: بكسر الحاء؛ أي: المحجور؛ لأنَّه كان عليه حظيرة وزريبة لغنم إسماعيل عليه السَّلام... ويُسمَّى: حظيرة إسماعيل عليه السَّلام؛ لأنَّ الحِجْر قبل الكعبة كان زربًا لغنم إسماعيل عليه السَّلام».
وكذلك وَرَدَ ذِكْر (الحظيرة) في كتاب «روح المعاني» للعلَّامة الألوسي (ت: 1270هـ)؛ فقد قال رحمه الله: «وأما الحِجْر، ويُسمَّى: الحطيم والحظيرة...».
الاسم السابع: الحطيم
الحطيم في اللغة: ما بقى من نبات عام أول؛ ليبسه وتحطُّمه؛ والمقصود هنا: حجر الكعبة أو غيره من التفسيرات، على ما سيأتي بيانه عند الكلام على تحديد مكان الحطيم.
وقد وَرَدَ ذِكْر (الحطيم) بهذا الاسم في عِدَّة مصادر، منها: ما ورد في «صحيح البخاري» على لسان الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: «من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر، ولا تقولوا: الحطيم».
قال الحافظ ابن حجر (ت: 852هـ)؛ في شرح هذا الأثر: «والمعنى: أنَّهم كانوا إذا حالف بعضهم بعضًا، ألقى الحليف في الحِجْر نعلًا أو سوطًا أو قوسًا أو عصًا؛ علامة لقصد حلفهم؛ فسمَّوه الحطيم لذلك؛ لكونه يحطِّم أمتعتهم، وهو فعيل بمعنى فاعل؛ ويُحتمل أن يكون ذلك كان شأنهم إذا أرادوا أن يحلفوا على نفي شيء».
وقال العلَّامة أنور شاه الكشميري (ت: 1352هـ) رحمه الله، كما في «فيض الباري»: «لأنَّه كان من عادة العرب، أنَّهم إذا حلفوا بأمرٍ حطَّموا شيئًا في هذا المكان؛ تذكاراً لأيمانهم، فلا يرفعونه حتى يبُرُّوا في أَيمانهم؛ فسُمِّي حطيمًا لذلك».
وكذلك وَرَدَ ذِكْر (الحطيم) من كلام الإمام البخاري (ت: 256هـ) رحمه الله في «صحيحه»؛ فقد قال رحمه الله: «والحِجْر: كلُّ بناءٍ بنيتَه، وما حَجَرْتَ عليه من الأرض فهو حِجْر، ومنه سُمِّي حطيم البيت حِجْرًا، كأنَّه مشتقٌّ من محطوم، مثل: قتيل من مقتول»().
تحديد مكان الحطيم.. وسبب تسميته بهذا الاسم
وإذا كنا قد عرَّفنا بحطيم الحرم المكي بهذا التعريف الموجز، وتطرَّقنا إلى تسمياته المعروفة والمسطورة في كتب أهل العلم؛ فإنَّه يحسُن بنا أن نعرِّج على ما يتعلَّق بتحديد مكانه، وسبب تسميته؛ إتمامًا للفائدة، فأقول: إنَّ مسألة تحديد موضع حطيم الحرم المكي، تُعدُّ من المسائل التي اختلف فيها أهل العلم اختلافًا يسيرًا، وتبعًا لاختلافهم في تحديد موضعه، فقد اختلفوا في سبب تسميته بهذا الاسم، والمشهور في تحديد موضع الحطيم في الحرم المكي عشرة أقوال، وهي:
القول الأول: أنَّ موضعه ما بين الحجر الأسود والباب ومقام إبراهيم وزمزم والحِجْر؛ وهذا أوسع الآراء، وبه قال الأزرقي عن ابن جريج؛ قال المُؤرِّخ تقي الدين الفاسي (ت: 832هـ): «اختُلف في الحطيم وفي سبب تسميته بذلك، فقيل: إنَّه ما بين الحجر الأسود ومقام إبراهيم وزمزم وحجر إسماعيل؛ وهو مقتضى ما حكاه الأزرقي عن ابن جريج».
قال المُؤرِّخ محمد طاهر الكردي المكي (ت1400هـ): «الصحيح المعتمد في موقع الحطيم، هو كلام الإمام الأزرقي المذكور؛ من أنَّ الحطيم هو ما بين ركن الحجر الأسود وحِجْر إسماعيل والمقام وزمزم؛ فهذا الموضع هو الذي كانوا يطلقون عليه الحطيم من زمن الجاهلية، قبل بناء قريش الكعبة، وقبل أن يُحطَّم من البيت الحرام شيء، كما هو صريح كلام الإمام الأزرقي، وكفى به حُجَّة».
القول الثاني: أنَّ مكان الحطيم هو الحِجْر نفسه الذي فيه الميزاب، وبه قالت كتب الأحناف والشافعية، وقال به جماعة من أهل العلم، منهم: الحافظ ابن إسحاق (ت: 151هـ)، والإمام البخاري (ت: 256هـ)، والعلامة ابن القيم (ت: 751هـ)، وغيرهم؛ وهذا هو الراجح؛ وقالوا: إنَّما سُمِّي الحِجْر حطيمًا لأنَّه حُطم من البيت؛ أي: كُسر؛ وقيل: لكثرة من ينتابه -يقصده- كأنَّه يُحْطَم.
قال العلَّامة اللغوي الخليل الفراهيدي (ت: 170هـ): «الحِجْر: حطيم مكة، وهو المدار بالبيت كأنَّه حُجرة»، وكذا قال الإمام الليث، والعلَّامة ابن فارس الرازي (ت: 395هـ).
وقال العلَّامة الجوهري (ت: 393هـ): «الحِجْر: حِجْر الكعبة، وهو ما حواه الحطيم المدار بالبيت جانب الشمال».
وقال العلَّامة الفيومي الحموي (ت: 770هـ): «الحِجْر: بالكسر العقل، والحِجْر: حطيم مكة، وهو المدار بالبيت من جهة الميزاب».
وقال العلَّامة جار الله بن ظهيرة القرشي المكي (ت: 986هـ): «الحطيم عندنا هو الحِجْر -بكسر الحاء وسكون الجيم- وهو الموضع الذي نُصب فيه ميزاب البيت، وإنَّما سُمِّي بالحطيم لأنَّه حُطم من البيت؛ أي: كُسر؛ كذا في كتبنا».
ووافق العلماء المتقدِّمين: العلَّامة محمد علي بن محمد عَلَّان المكي (ت: 1057هـ)؛ فقال: «الحِجْر بكسر الحاء...؛ أي: المحجور؛ لأنَّه كان عليه حظيرة وزريبة لغنم إسماعيل عليه السَّلام، ويُسمَّى بالحطيم، أخرج أبو داود عن ابن عباس قال: «الحطيم: الجدار»؛ يعني: جدار الكعبة؛ قال في «البحر العميق»: والمشهور عند الأصحاب أنَّ الحطيم اسم للموضع الذي فيه الميزاب، بينه وبين البيت فُرجة، سُمِّي حطيمًا لأنَّه حطيم من البيت؛ أي: مكسور منه؛ فعيل بمعنى مفعول، كقتيل بمعنى مقتول؛ وقيل: بمعنى فاعل؛ لأنَّه جاء في الحديث: «مَن دعا على مَن ظلمه فيه حطَّمه الله»()؛ قال: وسُمِّي حِجْرًا لأنَّه حُجِر من البيت؛ أي: مُنع منه؛ ويُسمَّى: حظيرة إسماعيل عليه السَّلام؛ لأنَّ الحِجْر قبل الكعبة كان زربًا لغنم إسماعيل عليه السَّلام».
القول الثالث: ما ذَكَره العلامة أبو عبيد القاسم بن سلام (ت: 224هـ)، والمحب الطبري (ت: 694هـ)، وغيرهما، عن الصحابي ابن عباس رضي الله عنه أنَّه قال: «الحطيم هو الجدار»؛ يعني: جدار حِجْر الكعبة، وتردَّد هذا القول في كتب فقهاء الأحناف؛ ولذلك جعله البعض مذهبًا للأحناف، ولكن هذا التعميم فيه نظر.
قال العلَّامة المطرزي (ت: 610هـ): «والحِجْر: بالكسر، ما أحاط به الحطيم ممَّا يلي الميزاب من الكعبة»، وقال العلَّامة محمد عابد السندي (ت: 1257هـ): « الحِجْر: بالكسر، ما حواه الحطيم المدار بالكعبة من جانب الشمال».
القول الرابع: أنَّ الحطيم هو الشاذروان، سُمِّي بذلك لأنَّ البيت رُفع وتُرك هو محطومًا؛ وهذا أضعف الأقوال؛ قال المُؤرِّخ تقي الدين الفاسي (ت: 832هـ): «قال المحب الطبري: ... وقد قيل: الحطيم هو الشاذروان، سُمِّي بذلك لأنَّ البيت رُفع وتُرك هو محطومًا؛ فيكون فعيلًا بمعنى مفعول؛ قال: وقد قيل: لأنَّ العرب كانت تطرح فيه ما طافت فيه من الثياب، فيبقى حتى يتحطَّم من طول الزمان؛ فيكون فعيلًا بمعنى فاعل... وقيل في سبب تسميته: إنَّه سُمِّي بالحطيم لأنَّ الناس كانوا يحطمون هنالك بالإيمان؛ فقلَّ مَن دعا هنالك على ظالمٍ إلا هلك، وقلَّ مَن حلف هنالك آثمًا إلا عُجِّلت له العقوبة».
والمقصود بالشاذروان: هو الإفريز -أي: البناء- البارز بمقدار ثلثي ذراع في أسفل جدران الكعبة.
القول الخامس: أنَّ الحطيم هو ما بين مقام إبراهيم إلى باب الكعبة؛ قال الإمام مالك (ت: 179هـ): «الحطيم: ما بين الباب إلى المقامِ».
وقال العلَّامة الزبيدي (ت: 1205هـ) في «القاموس»: «الحطيم: ... أو من المقامِ إلى الباب».
القول السادس: أنَّ الحطيم هو ما بين الحجر الأسود إلى باب الكعبة إلى مقام إبراهيم؛ قال في «القاموس»: «الحطيم: ... أو ما بين الركن الأَسود إِلى الباب إلى المقامِ، حيث يتحطَّم الناسُ للدعاء؛ أي: يزدحمون؛ فيحطِمُ بعضُهم بعضًا».
القول السابع: ما ذَكَره العلامة ابن القيم (ت: 751هـ)، والمحب الطبري (ت: 694ه ـ)، أنَّ الحطيم ما بين الركن والباب، وهو الملتزم.
القول الثامن: أنَّ الحطيم هو ما بين الركن الأسود والمقام؛ قال الحافظ ابن حجر (ت: 852هـ): «وقيل: الحطيم بين الركن الأسود والمقام».
القول التاسع: أنَّ الحطيم هو من أول الركن الأسود إلى أول الحِجْر؛ قال الحافظ ابن حجر (ت: 852هـ): «وقيل: من أول الركن الأسود إلى أول الحِجْر يُسمَّى: الحطيم».
القول العاشر: أنَّ الحطيم هو بئر الكعبة؛ قال الحافظ ابن حجر (ت: 852هـ): «وقال غيره -أي: غير ابن الكلبي-: الحطيم هو بئر الكعبة، التي كان يُلقى فيها ما يُهدى لها» ؛ وقال العلَّامة العيني (ت: 855هـ): «وقيل: الحطيم هو بئر الكعبة، التي كان يُلقى فيها ما يُنذر لها».
قلت: وإن كان الصحيح من هذه الأقوال هو ما قدمناه، من أنَّ الحطيم هو الحِجْر نفسه الذي فيه الميزاب، إلا أنَّه -وكما أسلفنا- أنَّ هذه الاختلافات تُعتبر من الخلافات اليسيرة؛ بل ذهب بعض أهل العلم إلى الجمع بين ما ورد من الأقوال في تحديد موضع الحطيم، وتسمية الجميع حطيمًا، كما نقل ذلك القاضي عياض (ت: 544هـ)، عن ابن أبي زيد القيرواني (ت: 386هـ)؛ وهذا نصه: «قال ابن أبي زيد: فعلى هذا كلُّ هذا حطيم؛ الجدار من الكعبة، والفضاء الذي بين البيت والمقام؛ وعلى هذا تتفق الأقاويل والروايات كلُّها».
خلاصة الأقوال في سبب تسميته:
ومن خلال هذه النقول التي تقدَّمت، يتبيَّن لنا سبب تسمية الحطيم بهذا الاسم؛ وحاصل الأقوال في ذلك ثمانية أقوال، وهي:
القول الأول: لأنَّه حُطم من البيت؛ أي: كُسر.
القول الثاني: لأنَّ البيت رُفع وتُرك هو محطومًا.
القول الثالث: لكثرة من ينتابه -يقصده- كأنَّه يُحْطَم.
القول الرابع: لأنَّ العرب كانت تطرح فيه ما طافت فيه من الثياب، فيبقى حتى يتحطَّم من طول الزمان.
القول الخامس: لأنَّهم كانوا إذا أرادوا أن يحلفوا على شيء، أو يحلفوا على نفيه، ألقوا في الحِجْر نعلًا أو سوطًا أو قوسًا أو عصًا؛ علامة لقصد حلفهم؛ فسمَّوه بذلك لكونه يحطِّم أمتعتهم.
القول السادس: لأنَّه كان من عادة العرب، أنَّهم إذا حلفوا بأمرٍ حطَّموا شيئًا في هذا المكان؛ تذكاراً لأيمانهم، فلا يرفعونه حتى يبُرُّوا في أَيمانهم.
القول السابع: لأنَّ الناس كانوا يحطمون هنالك بالإيمان؛ فقلَّ مَن دعا هنالك على ظالمٍ إلا هلك، وقلَّ مَن حلف هنالك آثمًا إلا عُجِّلت له العقوبة؛ فكان ذلك يحجز بين الناس عن الظلم، ويتهيَّب الناس الأيمان؛ فلم يزل ذلك كذلك حتى جاء الله بالإسلام، فأخَّر الله ذلك لِمَا أراد إلى يوم القيامة.
تنبيه: القول بأنَّ الدعاء مستجاب في الحطيم قال به بعض العلماء، إلا أنَّه لم يرد في ذلك دليلٌ صحيحٌ يُعتمد عليه؛ قال القاضي عياض(ت: 544هـ): «وقيل: بل كانت الجاهلية تتحالف هناك ويحطمون هناك بالإيمان؛ فمَن دعا على ظالم أو حلف هناك آثمًا عُجِّلت عقوبته»، وقال الحافظ ابن حجر (ت: 852هـ): «وقيل: إنَّما سُمِّي الحطيم لأنَّ بعضهم كان إذا دعا على مَن ظلمه في ذلك الموضع هلك»، والله أعلم.
القول الثامن: لأنَّ الناس يزدحمون للدعاء؛ فيحطِمُ بعضُهم بعضًا.
وبتمام هذا التلخيص نكون قد أتينا على المقصود من هذا المقال، في بيان أسماء الحطيم في الحرم المكي، وتحديده مكانه، وسبب تسميته بهذا الاسم؛ فنرجو الله أن تحصل به تمام الفائدة، وأن ينفع بهذا المقال كلَّ مطَّلع عليه.
وصلَّى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم..
** **
- إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير