وجدتني فجأة -وبلا ترتيب مسبق- أحمل حقيبتي الصغيرة، قاصداً محطة النقل الجماعي في الرياض، والحجز على أقرب رحلة إلى اليمن بعد أن تعذَّر السفر عن طريق الجو؛ نظراً لقلة الرحلات الجوية -آنذاك- المتجهة إلى اليمن، فكان الحل المناسب في مثل هذه الحالة هو السفر براً رغم مشقة السفر على حافلة بطيئة السرعة ومكتظة بالركاب، عدا ما يعانيه الراكب من ضيق المكان، وصعوبة الحركة، وقلة التهوية، وارتفاع أصوات الركاب، وتوقف الحافلة في أماكن معينة، والأكل مجبراً في مطاعم تفتقر إلى النظافة!
وقد استمرت الرحلة أكثر من يومين بلياليهما، والحافلة تسير بنا دون توقف إلا لتناول الطعام أو أداء الصلاة على عجل، أو الاسترخاء قليلاً، حتى وصولنا إلى منفذ الطوال بمنطقة جازان، ثم دخولنا إلى الأراضي اليمنية، وتجاوزنا نقطة التفتيش والجمارك دون حدوث أي عوائق تذكر.
وكانت الإجراءات في المنفذ الحدودي اليمني سلسة إلى حد ما، ولم يعكر صفو مزاجي سوى ذلك التصرف غير اللائق الذي قام به موظف التفتيش أثناء العودة قبل أن يختم جواز السفر، وهو أن أدفع ما يعادل 100 ريال سعودي - رسوم إقامة في اليمن- وهددني بالعودة من حيث أتيت إذا أنا امتنعت عن السداد، فدفعت له المبلغ دون أن يعطيني وصلاً بالاستلام - مكره أخوك لا بطل- كما يقول المثل بعد أن مكثت في ربوع اليمن 11 يوماً، تجولت خلالها في بعض مدن اليمن ومحافظاته.
وكانت أياماً جميلة على الرغم من عدم وجود رفيق سفر يؤنس وحدتي في بلد لا أعرف فيه أحداً، مما جعلني أضطر إلى الاستعانة بالآخرين؛ لالتقاط بعض الصور التذكارية للأماكن التي زرتها من كاميرا تصوير تقليدية، كنت أحملها في يدي في كل تنقلاتي.
وقد اقترح علي أحد الإخوة اليمنيين حينما أصل إلى مدينة صنعاء أن أسكن في شارع (حدة) فهو من أرقى شوارع العاصمة وأقلها زحاماً، ويوجد على امتداده بعض الفنادق والشقق السكنية المفروشة والمستشفيات وغير ذلك من الخدمات، وهو قريب من جامع الصالح وميدان السبعين وحديقة السبعين، وقد ازدان الشارع ببعض الأشجار الباسقة التي زُرعت في وسط الجزيرة، فزادته جمالاً ورونقاً.
والمواصلات في شارع (حدة) متوافرة وتكثر على جانبيه سيارات (السرفيس) الصغيرة؛ لنقل الركاب بأسعار زهيدة إلى بعض الأحياء المجاورة.
وصلت إلى صنعاء وأنا في غاية الإرهاق؛ بسبب طول الرحلة وقلة النوم وضوضاء الركاب، ونزلت في فندق مناسب، وحوله كل الخدمات التي يتمناها السائح من مطاعم ومقاه وأسواق تجارية ومنتزهات.
ولم ألبث طويلاً في هذا السكن المريح، وسرعان ما انتقلت إلى فندق آخر في شارع الزبيري، ثم استقررت أخيراً في فندق الملكة أروى، وهو فندق لا بأس به من حيث الموقع والنظافة والخدمات المقدمة لنزلائه، وهو يقع في وسط البلد ويطل على ميدان التحرير.
وقد فُوجئت في أول يوم لي في هذا الفندق ببعض الجنود يدخلون علينا وهم يحملون أسلحتهم، ويأمرون موظف الاستعلامات بإغلاق كل النوافذ المطلة على ساحة التحرير، مما أثار الفزع في قلوب بعض النزلاء، وما كنت أدري أن هذا اليوم يصادف الاحتفالات الكبرى التي تُقام سنوياً في هذا المكان؛ بمناسبة ذكرى ثورة 26 سبتمبر 1962م التي سيحضرها الرئيس علي عبدالله صالح، ولا بد من اتخاذ بعض الإجراءات الأمنية اللازمة.
وقد قامت الثورة بقيادة المشير عبد الله السلال، وبدعم من الرئيس جمال عبدالناصر؛ بحجة حماية ثورة اليمن، والقضاء على الجهل والتخلف والرجعية - وهو شأن داخلي- فزج بنحو 70 ألف جندي مصري من جيشه في أرياف اليمن وجباله الوعرة، مما مكَّن في النهاية الجمهوريين من الإطاحة بحكم المملكة المتوكلية اليمنية، بعد معارك حامية بين الطرفين، تساقط خلالها آلاف القتلى، ثم تلا ذلك الإعلان عن قيام الجمهورية العربية اليمنية، ولكن ما لبثت أن عادت الاضطرابات من جديد، وكثرت عمليات الاغتيالات السياسية!
نزلت إلى ساحة التحرير مبكراً، ثم بدأت تتوافد الناس من بعد صلاة العشاء، ووجدتها فرصة سانحة لحضور هذه المناسبة الوطنية التي جاءت مصادفة وبلا موعد مضروب، والاستماع إلى تلك الأناشيد الوطنية الحماسية، وشاهدت مجموعة من الفتيات اليمنيات يرقصن بملابسهن الجديدة الزاهية، ويحملن بأيديهن باقات من الزهور والرياحين، والشباب يحملون خناجرهم ويتراقصون بكل حيوية في مشاهد جميلة ستبقى في الذاكرة، وقد شاركت معظم وسائل الإعلام اليمنية في نقل وقائع هذه الاحتفالات في بث مباشر.
ومن المصادفات الجميلة أن يتزامن وجودي في صنعاء - آنذاك- مع موعد افتتاح معرض الكتاب في دورته السادسة والعشرين، الذي تنظمه وزارة الثقافة والسياحة اليمنية - وهو آخر معرض يُقام قبل اندلاع الثورة- ولم أعلم بافتتاح المعرض إلا مصادفة حينما زرت مصادفة مقر وزارة الثقافة والسياحة التي تقوم بجهود طيبة في تنظيم معرض الكتاب الدولي سنوياً والإشراف عليه، وإقامة بعض الفعاليات الثقافية والفنية، وطباعة الكتب الأدبية والدواوين الشعرية.
ولعل من أبرز إنجازاتها في هذا الجانب، هي إصدارها للأعمال الشعرية الكاملة لبعض شعراء اليمن المعاصرين في طباعة حسنة؛ بمناسبة اختيار مدينة صنعاء عاصمة للثقافة، ومن هؤلاء الشعراء: محمد محمود الزبيري، وعبد الله البردوني، وعبدالعزيز المقالح، ومحمد عبده غانم.
يقع معرض الكتاب في أطراف صنعاء على أرض متوسطة المساحة، وما إن علمت بافتتاحه حتى استقللت سيارة أجرة وتوجهت له في اليوم التالي.
وهو معرض لا بأس به رغم وجود بعض السلبيات التي يمكن تلافيها في الدورات القادمة.
وشاركت فيه معظم دور النشر المحلية، وبعض دور النشر العربية والأجنبية، وقد طفت بجميع أجنحته في أقل من ساعة، واشتريت عددا من الكتب بأسعار مناسبة، وشاهدت بعض دور النشر المشاركة تبيع مطبوعاتها في أجنحة مكشوفة؛ مما تسبب في غرق بعض الكتب بعد هطول الأمطار التي جاءت متزامنة مع افتتاح المعرض!
من أبرز المعالم التي زرتها في صنعاء (سوق الملح) أقدم أسواق اليمن وأكثرها شهرة، وما زال محتفظا بمعالمه التاريخية الجميلة، وتُباع بداخله مختلف أنواع البضائع مثل: الأسلحة والمواد الغذائية والأجهزة الكهربائية والملابس والعطور والبهارات والتوابل.
وبعد أن أمضيت 5 أيام في صنعاء تاقت نفسي إلى زيارة محافظة تعز جنوبا، والتي تبعد عن صنعاء مسافة 160 كيلومتراً تقريباً، وتعد من أكثر المدن اليمنية سكانا، وتمتاز بأجوائها المعتدلة، وبكثرة الأمطار.
وقد حجزت في أول حافلة متجهة إلى تعز، ووصلت إلى هناك في وقت متأخر من الليل، والحافلة تجوب بنا الجبال الشاهقة بلا هوادة، والأجواء كانت لطيفة، ورذاذ المطر يتساقط برفق مع النوافذ، فلم نشعر بوعورة الطريق ولا خطورته في هذه المرتفعات.
من أهم المعالم التي زرتها في تعز قلعة (القاهرة) الأثرية، وقد صعدتها حتى بلغت قمتها، وأيضا صعدت جبل (صبر) ذلك الجبل الضخم والمخيف، الذي كان عقبة كبيرة يصعب اجتيازها، حتى زار الأمير سلطان بن عبدالعزيز - رحمه الله- محافظة تعز، فتبرع بمبلغ كبير لشق هذا الجبل وتعبيده، مما سهل على سكانه صعود الجبل والنزول منه بلا عناء.
مكثت يومين في تعز ثم انطلقت مسرعاً إلى محافظة إب، وهناك وجدت أن الأجواء قد صارت أكثر برودة، والأمطار تهطل دون توقف، والجبال تكسوها الخضرة، ورأيت مجموعة من المصطافين يتحلقون حول شلال (المشنة) فتوقفت بعض الوقت عند هذا الشلال؛ للاستمتاع برؤية هذا المنظر الجميل.
ومن أجمل الأماكن التي زرتها في إب منطقة العدين، وهي تبعد عن إب مسافة 40 كيلاً، وتمتاز بالطبيعة الساحرة، وبكثافة الأمطار، واعتدال الطقس طوال السنة.
وزرت متحف الملكة أروى التاريخي، واستمعت إلى شرح مفصّل من المرشد السياحي عن أبرز مقتنيات المتحف، مع إعطاء نبذة يسيرة عن هذه الملكة.
وكانت خاتمة المطاف زيارة مدينة عدن التي وصلتها ليلاً، ونزلت في فندق اسمه خليج عدن، وفوجئت بارتفاع درجة الحرارة، ورأيت الناس - شبه عراة- يفترشون الأرض وينامون تحت ظلال الأشجار!
وفي اليوم التالي نهضت مبكراً وتناولت إفطاري، ورأيت أولاً زيارة (صهاريج عدن) الشهيرة، وهي خزانات مياه كانت تستخدم قديماً لتخزين مياه الأمطار؛ للاستفادة منها في الزراعة، وأيضاً يستفاد منها لحماية مدينة عدن من السيول.
ومن أبرز المعالم الشهيرة التي زرتها في عدن رغم شدة الحرارة قلعة (صيرة) وهي من القلاع الأثرية القديمة، ويمكن الوصول إلى قمتها عن طريق درج حجري.
وزرت أيضاً مديرية الشيخ عثمان بعدن، ومنطقة (البريقة) وهي تابعة لمدينة عدن، ويوجد بها (تلفريك) متهالك ويحتاج إلى صيانة، وكاد أن يسقط بي والبحر من تحتي ولكني نجوت بأعجوبة!
وبعد هذه الجولة الاستكشافية الجميلة لبعض المدن والمحافظات اليمنية عدت إلى صنعاء؛ استعداداً للرحيل إلى المملكة، وحاولت الحجز جواً عن طريق أحد مكاتب الطيران، ولكن لا توجد رحلات إلى الرياض إلا بعد أسبوعين، فاضطررت للعودة براً عن طريق إحدى الحافلات، ولكن جمال هذه الرحلة وما شاهدته من مناظر مبهجة، أنست كل ما لقيته في هذه الرحلة المباركة من نصب.
** **
- سعد بن عايض العتيبي