مازحني صديقي المشاكس قائلاً: إذا كانت مصرُ أمَّ الدنيا فمن يكون أبا الدنيا؟ فقلت له: هذا سؤال من غويٍّ أم من لُغَويٍّ؟ قال: وما ظنّك بي. قلتُ: أنت عندي أجلُّ من أن تردد ما يقوله العوام من غير أهل الاختصاص، ويثيرون جدالاً لا طائل منه وأنا لل أخوض في هذا؛ لذلك دعني أسألك ابتداءً هل تعرف ما يطلق على الدنيا من باب الكناية؟ قال: من هذا الباب (أم دفر) ذكرها الثعالبيّ في ثمار القلوب، وأورد بيت ابن الرومي:
لم تظلم الدنيا بأم دفر
وأنت فيها من ولاة الأمر
قلتُ: نعم يا صديقي. وأوردها الثعالبي في باب الأمّهات، ومثّل في هذا الباب بـ (أمّ القرى) وذكر «أم القرى أما في جزيرة العرب فهي مكة، وأم كل أرضٍ، أعظم بلدانها وأكثرها كالبصرة، فإنها تسمى أم العراق. ومرو فإنها كانت تسمى أم خراسان. ويقال: قرية من أمهات القرى؛ إذا كانت كبيرة كثيرة الأهل. وأم كل شيءٍ أصله، ومنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أمي، لأنه نسب إلى أم القرى، وهي مكة، ويقال: بل نسب إلى أم العرب، أي أصلهم، وكانوا لا يقرؤون ولا يكتبون، فقيل لكل من لا يقرأ ولا يكتب: أمي».
وما ذكره الثعالبيّ يدخل فيما يسميه علماء الدلالة التعبيرات الاصطلاحية أو التعبيرات المسكوكة التي تمتاز بثباتها الدلاليّ ولها هيئة نحوية، وغالبًا ما ترتكز على المركب الإضافي، والأهمّ من هذا كلّه أن تنتقل صيغة التعبير من كلام عابر على لسان شخص إلى ميراث جماعي يتناقله الناس حتى نطلق عليه تعبيرًا اصطلاحيًا. وهبْ أن الحمدوي قال ما قاله من مقطوعات شعرية حول طيلسان ابن حرب ولم يلتفت إليه أحد، أو أن سقطة ابن وهب في مجلس عام لم تنتشر في الآفاق أكان يكتب لهما السيرورة ويضرب بهما المثل ويضمنها الشعراء قصائدهم. ولم يختلف صنّاع المعاجم أو علماء الدلالة على هذا الأمر، وأضاف البلاغيون الطاقة التأثيرية الإيحائية التي تنهض بها هذه التعبيرات.
لعلك اكتشفت يا صديقي المشاكس أن بعض التعبيرات قرآنية مثل (أمّ القرى)، وبعضها من عصور الاحتجاج مثل (لسان حسّان)، وبعضها مولّد مثل (ماء النعمة) في عصور غير عصور الاحتجاج. والتعبيرات الاصطلاحية طبقات تتفاوت فيما بينها. وإنّما ذكرت لك هذا حتى أقول لك إنّ (أمّ الدنيا) دخلت من هذا الباب، وأطلقت على أرض الكنانة مصر، من أطلقها؟ ميراث جماعي وليس فردًا أو أفرادًا، وعُرفت بها ؛ أي تحققت لها السيرورة. وأمّا تفسيرها فستجد أهلها - مثل أي مواطن في دولة ما - يعتزّ بوطنه، وينسب إليها من الفضائل ما يجعلها في مرتبة عالية بين الأمم ؛ وحسبك ما رواه عبدالله فكري وهو من رجالات عصر النهضة يقول عن مصر: « يقصدها كل طالب من الأجانب ليستفيدوا من أهلها عوارف معارفهم ويستزيدوا من طرائف لطائفهم ويتعلموا عليهم ما لم يكن إلا لديهم من الصنائع العجيبة والبدائع الغريبة فهم الذين سهلوا سبل البراعة لسالكيها وذللوا أعنة الصناعة لمالكيها على حين كان غيرها لم ينشق عن صبح المعارف ظلامها ولا انزاح عن وجه التمدن لثامها فكانت مصر أم الدنيا تقدمًا وتقديمًا».
فإذا فتشت يا صديقي في آثار القدماء ستجد أماكن أخرى أطلق عليها (أمّ الدنيا) لكنها لا تدخل في هذا الباب ؛ أي باب التعبيرات الاصطلاحية. من ذلك قول وهب بن منبه في التيجان عن مكة المكرمة: «قال وهب: وأول ما تكاثف من الأرض وانعقد وصار أرض البيت حين كانت الأرض زبداً ثم تكاثف المسجد الحرام حولها ثم دحا الله الأرض تحتها قال الله تعالى {ولتنذر أم القرى ومن حولها} مكة أم الدنيا وما فيها من أثر». فأين موقع كلام وهب عن مكة (أمّ الدنيا) من كلام رب العالمين عنها وقد شرّفها بأنها (أمّ القرى) في سورة الشورى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}. أبعد هذا كلّه يصح أن تكون الأبوّة مقابلة للأمومة في هذا الباب ؛ حفظ الله أمّ الدنيا وبلاد الحرمين التي جمعتنا معًا يا صديقي في ربوع القصيم وبلادنا الإسلاميّة كافّة.
تلألأت سمرة صديقي المشاكس مع الدعاء، وقال: سلّمتُ لك بهذا، وبهذا الموروث الجماعي الذي اختزل اتساع الدنيا في مصر أم الدنيا. فماذا أنت قائل في اختزال المصريين الوطن كلّه في العاصمة فإنهم يطلقون اسم مصر على القاهرة العاصمة.
قلت: الجواب في (أم دفر) فدُهش وكأنّه يقول ألم ننته من حديث أم دفر، وواصلتُ الحديث إنّ (أم دفر) تعبير مثل كل تعبير اصطلاحي يحتفظ بثباته الدلالي لكن التصرّف في توظيفه شعرًا أو نثرًا أو في سياق كلامي وارد. واستدعيتُ أم دفر ؛ لأنّ المتنبي أوردها دون (أم) بدلالة المقام، وقال:
هَزَمَتْ مكارمُه المكارمَ كُلَّها
حتى كأنّ المكرُمَات قبائلُ
وقتلْنَ دَفْرًا والدُّهيمَ فمَا تُرى
أمُّ الدُهيمِ وأمُّ دَفْرٍ هابلُ
وثار الحاتميُّ في رسالته الموضحة وقال: «هذا خطأ لم يقله أحد ولا رواه ولا ادعاه على العرب مدع «. وقياسًا أَتوهمُ أن آباءنا المصريين عدّوا القاهرة (أم مصر) كما هو في البصرة (أم العراق) ومرو (أم خراسان) ثم مع كثرة التداول والاستخدام فعلوا فعلة المتنبي فاختزلوها إلى (مصر).
قال صديقي: هذا حديث من ثمرات القلوب وصيد التراث. وما أحسن الإصغاء إلى تراثنا العربيّ.
** **
أ.د. إبراهيم عبدالعزيز زيد - كلية اللغات والعلوم الإنسانية بجامعة القصيم