الأغنية - بتكامليّتها الأدبية والموسيقية والأدائية - من أهم الركائز لدراسة المجتمعات، لكونها انعكاسًا حقيقيًا يُعبِّر عن الهُويَّة الثقافية. وتُساهِم دراسة الأغنية وتتبُّع جُذورها التاريخية في فهم الظواهر الاجتماعيَّة المُتعلِّقة بأشكال التفاعل بين المجتمع والأغنية، كـ (تقاليد الأداء) والآداب الاجتماعية المُصاحِبة لبعض الفنون الشعبيَّة. ومعرفة التصوُّرات المختلفة للمجتمع عن نفسه وعن الآخر، وكيف تلقَّى الأنماط الغنائية الدخيلة، وكيف صنع أنماطًا جديدة وأثَّر في تطوُّرات الأغنية. وحتَّى الآن لم يظهر حقل دراسي خاص بسيسيولوجيا (الأغنية) يُقدِّم قراءة ثقافية متكاملة تتناول الأغنية في إطار السياق والنسق الاجتماعي التي صدرت فيها.
ما دفعني لكتابة هذا المقال أنَّني وجدت في الأهازيج الشعبية والفلكلور مادةً دسمة لفهم المجتمع السعودي عبر التاريخ، وما ترويه لنا من قصصٍ وحكايات وعادات وأحداث يومية في كل مراحل التغيُّرات النفسية والسلوكية للمجتمع. ولكي نقرأ البُعد الاجتماعي في الأغنية لا بُد أولًا من اتِّفاق بين المؤرِّخين على تقسيم المراحل التاريخية للأغنية السعودية، وهذا يدعونا إلى وضع معايير جادة ومنهجية واضحة لتحديد الملامح التطوُّرية التي يُبنى عليها التقسيم.
أول مرحلة يُمكن تحديد نطاقها الزمني بـ (مرحلة ما قبل الستينات) الَّتي عُرِفت فيها الأغاني والأهازيج الشعبية المتوارثة، أو الناشئة من مواقف يوميَّة ومشاكل ابن القرية الاعتيادية، أو أن تكون كلماتها ردًا على موقف أو على شخص ثم تتحوَّل القصَّة إلى أُغنية، وهي بشكلٍ عام تصف وقائع الحياة اليومية.
إذًا نستطيع القول إنَّ المرحلة الأولى للأغنية السعودية هي الأغنية الشعبية (المناطقيَّة)، أو ما يسمَّى اليوم (الفلكلور الشعبي)، إذ حينها لم تتوافر للمجتمع وسائل الانفتاح على الآخر كالراديو إلَّا في السبعينات والثمانينات. وإن كانت (الاسطوانات) قد دخلت للأسواق السعوديَّة في نهاية الخمسينات لكنَّ الفونوغراف كانَ باهظ الثمن، ولم يصل للقُرى والأماكن النائية، ولم يتوافر في شوارع المُدن إلا بعد الستينات.
وبناءً على الانغلاق الجزئي الذي عاشته بعض المناطق السعودية (قبل حركة التمدُّن) - على الأقل في المناطق الداخليَّة البعيدة عن الساحل - يُمكِن اعتبار الأغنية الشعبية المناطقيَّة قبل الستينات (المرحلة الأولى) على افتراض عدم وجود تحوُّلات موسيقية بارزة أو سريعة كما حدث للمجتمعات بعد العولمة. بدون شك خلال هذه المُدَّة الطويلة - الَّتي لم تُحدَّد بدايتها - نشأت فنون واندثرت أُخرى، ولكن بطبيعة الحال لم يكُن التغيير بوتيرة سريعة مثلما نشهَدهُ اليوم.
الأغنية الشعبية - ما قبل الستينيات -
تميزت الأغنية الشعبية بقصر أبياتها وبساطة كلماتها التي لا تتجاوز غالبًا ستة أبيات، وهي تُنسب للمنطقة/القبيلة لا للأفراد إذ لا يُعرَف قائلها وقد توارثها المجتمع وانتقلت عبر الأجيال سماعًا، من أبرَز سِماتها (الهِتاف الجماعي) ومن النادر أن يكون غنائها فرديًا. وهي قابلة للتعديل والإضافة، وتُجدّد باستمرار وتُضاف إليها أبياتٍ جديدة.
والأغنية الشعبية في مضمونِها الموروث غير المُعدَّل تحكي أحداثاً ومواقف يومية، تتنوَّع بين أغاني العمل حسب النشاط الإنساني في المنطقة إذا كانت ساحليَّة أو جبليَّة. وهي تُعتبر وثائق اجتماعية، تناقش مواضيع تهم الجماعة، وتحمِل كلماتها مفاهيم المجتمع وتصوُّراته للنواحي الاجتماعية والعقائدية والجمالية والفنية.
على سبيل المثال من الأغنية الشهيرة «سليِّم يا سليِّم» يُقال فيها: «حليمة حليمة طرِّزي ثوبي الملا.. جديد النقوش لا لبسته يسليني».
وفي الخبيتيات: «واللي مصيِّع في الخلا من يجيبه» ويقصد القائل هنا المُتسكِّع في الأراضي الخالية البعيدة.
وفي الأغنية الشهيرة «لا لا يالخيزرانة» تقول كلماتها: «وزمام سيدي طاح في يمة البير.. وجنيه أبو سيفين للي يجيبه» ويقصد فيه الجنيه السعودي الصادر عام 1951.
وعلى الرغم من بساطتها، للأغنية الشعبية محبة خاصة في قلوب الناس كبيرهم وصغيرهم، فالطفل منذُ نشأته يُشاهِد تعلُّق والديه وكِبار العائلة بالأغاني الشعبية، فيُدرك أهميتها وقيمتها كإرث ثقافي منقول من أسلافه، ويشعر هو الآخر بارتباط عاطفي معها كونه «امتداد» لهذه القصص التي ترويها أُغنيات أجداده. ولاحِظ ما إن تُجدَّد أغنية شعبية من قِبَل فنَّان صاعد إلّا وتنتشر كالنَّارِ في الهشيم، ولنا في «شدّت القافلة» مثال، عندما غنّتها الفنانة مروة سالم من الجيل الحديث، وقد غنَّاها وكانَ سببًا في شُهرتها على نِطاقٍ واسع الفنان (أبو هلال) في زمن الكاسيت بالتسعينات. وهذا نراه على نطاق واسع في جميع الثقافات، للأغنية الشعبية مكانتها وقيمتها لكونها «قصة حقيقية» عاشها أسلافنا.
أغراض الأغنية الشعبية
تتمحور الأغنية الشعبية حول أغراض رئيسية، أهمَّها التسلية والترفيه، والعشق والغزل، ووصف بعض المواقف التي تحدُث في القرية. ومن ضمن القِصص التي ترويها الأغنية الشعبية نجد دعوة واضحة إلى المحافظة على القيم الأخلاقية والاجتماعية فيها، كأن تُوجِّه كلماتها نقدًا لاذعًا لمُخالفي آداب الجماعة، أو تُشيد بالكرم والكرماء والنُبل والنبلاء. مثل (سليِّم يا سليِّم) يقول فيها: «سقى الله من سقاني وأنا عطشان، وعلّق لي القِربة على الدرب واسقاني».
وموضوع العشق يكاد يستحوذ على معظم الموروث الفني، إلَّا أن النسبة ستختلف من منطقة لأخرى حسب النشاط الإنساني فيها، فنرى الفلكلور الشمالي يتحدَّث عن المعاناة والسهر وتأملات الإنسان في الحياة والصداقة والحُب، وفي نجد مُتخَم بدعم الحاكِم والملك وقد تأثَّر فن المنطقة بالحركة السياسيَّة فيها، بينما أهازيج المنطقة الشرقيَّة لها صبغة الحنين والشوق ووصف مشقَّة الحياة، وامتازت المنطقة الغربيَّة بالتنوُّع الفريد بين كل الموضوعات، ومالت المناطق الجنوبية إلى السجالات والمحاورات والحكايات والمرح والفُكاهة.
أما عن أشكال (الشعر الغنائي الشعبي) فما وصلنا من الأهازيج التراثية الشمالية والنجدية قصائد طويلة منظومة بشكلٍ عمودي موزونة ومُقفَّاة، وكذلك في الدانات المكيَّة ومجارير الطائف، بينما نجد العكس في الخبيتي والينبعاوي وفلكلور المنطقة الشرقيَّة، إذ لا يعتمد على قصيدة مترابطة، بل على أبيات متفرِّقة لا تتقيَّد بالقافية وقد يحكي كل بيت قصة مختلفة. وهذا يُشبِه إلى حد كبير محاورات العرضات الجنوبيَّة بأنواعها وهي لا تزيد على بيتين أو أربعة أبيات شعريَّة.
وإذا جئنا للحديث عن موضوع (الغزل) في الأغنية الشعبيَّة فهو ممتد إلى أجدادنا العرب القُدامى في وصف الجمال العربي، حتَّى أن كثيراً من الأهازيج الشعبية استمرت باستخدام الأوصاف ذاتها، فأنف العربي يُشبِه السيف، وشعر الأنثى يُشبَّه بالخيل، وجسدها بالغزال وهي ما زالت إلى اليوم تُغنّى حتى في القصائد الحديثة. وفي وصف الحبيبة كانَ يتكرَّر كثيرًا نعتها «بالجاهلة» والَّذي لم يعتبر في حينها منقصة للمرأة، بل يُقصد فيه الأنثى اليافعة ضعيفة الخبرة في الحياة! بينما لا يأتي ذكر الرجل بالجاهل أبدًا. في أشهر مجارير الطائف يقول: «جويهل سكن قلب المولّع بحيلة، وراضي بسُكناه». وهو وصف امتد إلى نهاية الثمانينات عندما غنّى رابح صقر (مغرورة) عام 1988 وقال: «حلوة وجاهلة ومغرورة!». كذلك غنَّى طاهر الأحسائي في السبعينات: «على الذي في كف يمناه حنّا.. غرّ وصغير كامل الزين فتان». ولكن مع تغيُّر مفاهيم المجتمع اختفى مدح المرأة «بالجاهلة أو الصغيرة» في العُمر، ورُبَّما هذا يعود للتغيُّرات الجسدية والتطوُّرات الجمالية إذ أصبحت حتى المرأة الثلاثينية تُعد صغيرة وغير مُتزوّجة. أمَّا النساء قبل عقدين من الزمان لا يتجاوزنَ سبعة عشر عامًا إلَّا وهُن أمّهات.
وهناك استثناءات غزلية جريئة لا بُد من التطرُّق لها، والتي تفاجأت بها أثناء بحثي في موسوعة الفلكلورات الشعبية، حيثُ لم أجد جُرأة غزلية في أهازيج أي منطقة كما وجدت في المجارير الطائفية. وهذا يدعونا لدراسة طبيعة مجتمع الطائف، من خلال آدابه وفنونه، وكذلك ما قيل عنه في كُتب التراث وهو كثير جدًا. لنعرف ما إذا كان للطائف خصوصيَّة ثقافيَّة تجعلها من أكثر المناطق انفتاحًا وحُريةً في التعبير عن العشق والغزل الجريء أم ماذا.
تقول أحد المجارير: «شفايف كما الياقوت واللؤلؤ أفناد ويرقا يلوحي.. وريقه عسل صافي دوا سقم الأسقام شفا يا ناس لروحي». ومن الحدري: «يا ناس في خاطري كلمة.. أقولها ولا عليّ خلاف.. طالب من مبسمك سُلمة.. إن كُنت خايف أنا ما أخاف»، الشيء الذي يكاد ينعدم في أهازيج المناطق الأخرى. ما عدا الينبعاوي والمزمار في مرحلة (مُتقدمة) لاحقًا.
كذلك أحد الموضوعات البارزة جدًا في الأغنية الشعبية، ويندرج تحت موضوع العشق والغزل، هو ذِكر (العذال والوُشاة) والخوف منهم. وهذا يعكِس واقع مجتمع محافِظ، حاوَل عُشَّاقه التملُّص من هذه القيود قليلًا باقتناص فُرصة للجلوس عند الوادي، أو في البُستان، أو لمحة عند البئر!
فمثلًا من خبيتيّات التراث: «أهلك لنا ما يسمحوا لي.. لو ساعةٍ في وسطِ بُستان» وهو بيت من الأغنية الشهيرة لعم علي شيخ التي تغنَّى بها لاحقا علي عبد الكريم مطلعها (يا أهل الهوى ما ترحموني).
وفي أحد المجارير التُراثية يقول: «أقبل جبينه واللمى والخدودي بعد هجرهم طال، على رغم أعادينا وكيد الحسودي وواشي وعذّال».
وفي أغنية (سافروا ما ودّعوني) التي لا يُعرَف مصدرها، تقول ابتسام لُطفي: «والله لو أقدر أجيه.. كُنت جيته بقيلة.. بس أنا خايف عليه من عيون العيلة».
أمَّا موضوع النقاشات والسجالات التي تدور حول مواقف يومية فهي كثيرة جدًا، كقولهم في أحد الينبعاويات: «يا رايح الوادي.. جِب لي معك كادي.. يا طالع الطايف.. قلبي عليك خايف».
وقد تحتدم وتتحوَّل إلى مناوشات حادّة. ومثال عليها من المزمار:
«تكروني وأمه جبرتية.. ما يرد السلام عليا
راكب بغلة سويسيه.. ومعطي درب الحسينية
قلت له جبا يا يبة.. قال عجلان ما فيّا
كأنه ولد الأفندية.. وهو ولد الجبرتية»
وهي تطغى عليها العُنصريَّة التي كانت حاضرة بلا شك بين الأجناس المختلطة العديدة في المناطق التي انتشر فيها فن المزمار لاحقًا كجدّة ومكة.
وبالحديث عن أغراض الأغنية الشعبيَّة وموضوعاتها المختلفة فلا بُد أن نُعرِّج على أغاني التسلية والترفيه والتي أخذت حيِّزًا كبيرًا من حياة أهالي القُرى.
من الدانات المكيَّة: «أهل مكة حمام وأهل المدينة قماري.. وأهل جدة غزال والطايف أهله نماري» الأهزوجة التي تقطَّعت أجزائها إلى أشلاء وضُمَّت إلى أغاني مختلفة تغنَّى بها الفنَّانين المُعاصِرين.
ومن الحدري: «سلام يا راعي البُستان.. يا جامع كُل الزهور فيه.. نفسي رمتني على التفاح.. آخذ جبا منه ولّا لا بُد أشريه؟»
ومن الخبيتيات: «لا تحسب إنّي يوم غنّيت طربان.. قصدي أتسلّى وأطرد الهم عنّي».
بالتأكيد يُمكننا أن نعرف أكثر عن الثقافات المناطقية في السعودية من خلال أُغنياتهم وفُنونهم التي تحمل أرواحهم وقصصهم وأصواتهم، وهي صورة حية وخالدة إلى يومنا هذا تجعل من السهل علينا أن نتّصل بالماضي ونفهمه أكثر.
** **
- سماح العرياني