تعد ازدواجية اللغة العربية من أهم المشكلات التي تواجه فقهاء اللغة وعلماء البيان، ولا تختلف دلالة الازدواجية في العربية عن غيرها من اللغات من حيث المبدأ الذي يعتمد التقسيم العام بين لغة الكتابة، ولغة المحادثة، فالازدواجية في اللغة العربية تعني: «وجود العربية العامية (المنطوقة أساسا) إلى جانب الفصيحة (المكتوبة أساسا) التي هي اللغة القومية والدينية والحضارية للأمة».
ويرى بعض المفكرين أن وجود الازدواجية اللغوية أمر طبيعي، وضروري في كل اللغات ووفقا لهذا التصور؛ فإن لكل لغة رسمية فصحى لغة عامية تسير معها كظلها، ولا ضرر أو ضرار بين الشيء وظله، أو بين الروح وجسدها، فكل لغة فصحى مكتوبة ترافقها لغة محكية شعبية عامة غير مكتوبة تضافرها وتناظرها في دورة من التفاعل اللغوي الضروري للحياة الاجتماعية والفكرية.
ولا يزال تحديد مفهوم مصطلح الازدواجية اللغوية عسيرا وغامضا عند كثير ممن تعرضوا لدراسة هذه الظاهرة اللغوية، إذ تشكل مفهوم الازدواجية بوضوح عند اندريه مارتينيه؛ فيقول: «نميل إذن إلى أن نخصص تحت مفردة الازدواجية الألسنية موقفا لغويا اجتماعيا، حيث تستخدم بشكل تنافسي لهجتان لهما وضع اجتماعي ثقافي مختلف: الأولى باعتباره لغة محلية، أي شكلا لغويا مكتسبا أولويًّا ومستخدما في الحياة اليومية، والأخرى لسانا يفرض استخدامه في بعض الظروف.
وأغلب الظن أن العرب عرفوا الازدواجية في اللغة منذ العصر الجاهلي، حيث كانت لكل قبيلة لهجتها أو لغتها الخاصة بها، فكان التواصل بين العربي وقبيلته يتم بلغة هذه القبيلة؛ إذ يعمد في خطبه أو نظمه للغة المشتركة، وبقيت هذه الازدواجية بعد الإسلام، ونشأت ازدواجية اللغة بين (الفصحى والعامية) في عصر الفتوحات الإسلامية الأولى التي قام بها المسلمون، وما نتج عنه من صراع واحتكاك إبان اختلاط العرب بالأعاجم.
-إن خطر الازدواجية اللغوية المتمثل في اللغة العامية، يكمن في جوانب رئيسة كبيرة من جوانب حياتنا، فالفصحى هي لغة الدين والعلم وهي الوطن الروحي لنا، ورمز الوحدة والتواصل بين أفراد الأمة العربية، أما العامية فهي الخصم الحقيقي لأي وحدة وتقارب، وهي رمز التمزق والفرقة والتباعد، ونذير انهيار لكل منجزات الأمة وتفتيت جهودها.
- إن ازدهار العامية لا يكون إلا على أكتاف الفصحى، إنها صراع الفصحى من أجل السيادة والبقاء، فإذا تحقق لها ذلك وأصبحت هي اللغة المكتوبة الأدبية، انتقلت للقوة والثبات وتركت الفصحى خلفها، ثم تأخذ الفصحى بالانزواء والاندثار، ثم الاضمحلال شيئا فشيئا إلى أن يهجرها المتكلم ولا يبقى لها وجود في المجتمع.
- اللغة العربية الفصحى هي أهم دعامة تقوم عليها القومية العربية، ويشترك فيها أبناء العروبة، ففي القضاء على الفصحى قضاء على أقوى رابطة تربط شعوب الأمة بعضها ببعض.
- يؤدي الازدواج إلى ضعف المستوى اللغوي؛ وبالتالي يؤدي لقتل الإبداع بكل أنواعه؛ إذ إن الشخص مزدوج اللغة يعيش في حالة داخلية من الحيرة والتردد، فالإبداع يتطلب إتقانا تاما للغة، والمعرفة الكاملة على ألفاظها ومعانيها، وبالإضافة لذلك فإن الازدواجية تعمل على خنق الفصحى، وتقف حائلا دون انتشارها.
وفي ضوء ما سبق، فإن جملة المشكلات الناجمة عن الازدواجية اللغوية تشكل خطرا على العربية (لغة القرآن)، ويمكن تجاوزها أو التخلص من آثارها من خلال:
- إعادة هيمنة العربية الفصحى إليها؛ بوصفها لغة الخطاب الديني أولا، ومن ثم الثقافي والفكري لأبناء الأمة الذين تقع على عاتقهم حماية الفصحى؛ لغة القرآن، والاعتزاز بها، فهي لغة حضارتهم وهويتهم؛ فلا يستطيع العربي اليوم رسم سياستهم من دون صوغ خطابهم العلمي والثقافي والسياسي باللغة العربية؛ إذ يجب التعامل مع العربية بوصفها لغة أدت - ولا تزال – الرسالة الدينية والثقافية والعلمية والأدبية إلى الأمم كافة، على أننا نستطيع الإفادة مما جاء في العاميات واللهجات المحلية من نقاء لغوي يمكن رده إلى جسد اللغة الأم مما يؤدي إلى تقليص حضور العامية إلى أبعد حد ممكن؛ فنحن لا نستطيع تهشيم العاميات؛ لأنها واقع معيش.
- التخطيط اللغوي المتقن الجيد لتقوية العربية الفصحى عند أبنائها، بدءا بالمدارس والحرص على إجراء محادثات بين الطلبة بلغة عربية سليمة، وهو ما يبسط قواعد اللغة الصرفية والنحوية والدلالية لهم ويسهل عليهم تعلمها وإتقانها، ويجب البدء بالمرحلة التأسيسية الأولى من مراحل التعليم، بوصفها أهم مراحل التعلم واكتساب المهارات والمعلومات عند الطفل من خلال التركيز على مهارات القراءة والتحدث والكتابة والاستماع بالعربية الفصحى، وتعويد النشء على العربية الفصحى وإدراك معانيها، ما يشكل معجما ثريا عند الناشئة ويعزز ثقتهم بلغة دينهم وحضارتهم، مرورا بوسائل الإعلام وحث المسؤولين عنها بضرورة التحدث بالفصحى، وانتهاء بأئمة المساجد ووسائل التواصل الاجتماعي.
- عمل دورات متكاملة مكثفة للكتاب والصحفيين ومذيعي التلفاز؛ لأن ذلك سينعكس إيجابا على المتلقي، ويكسبه القدرة اللغوية، ويشجعه على استخدام الفصحى في مختلف جوانب حياته العامة.
**__**__**__**
اعتمدت هذه المقالة على عدد من المصادر والمراجع، أهمها العربية الفصحى بين الازدواجية اللغوية والثنائيّة اللغوية لإبراهيم كايد، والازدواج اللغوي في اللغة العربية لعبدالرحمن القعود.
aooa14301
** **
- محمد عثمان الخنين