إن علاقة الانسان بالمكان علاقة تبادلية، فكلما شعر الانسان بالأمان والراحة والطمأنينة في مكان ما، كلما رغب في البقاء فيه واستثمار كل طاقاته الإيجابية في الحفاظ عليه وتجديده. غير أن حضور المكان في رواية «قلبي يميل» لا يتوقف على دلالة الحضور المادي فقط، وإنما يتجاوز ذلك الى أبعاد دلالية أخرى تترافق من خلالها الحالة النفسية التي تعيشها البطلة مع ذكرياتها المؤلمة في علاقتها مع المكان.
كان قصد الأديبة الأستاذة أماني من وراء هذا الحضور المادي للحيز المكاني ما يؤديه هذا الفضاء من الاسهام في الكشف عن أعماق نفس بطلة هذا العمل الروائي، الأمر الذي جعلها تنتقل من المكان القديم المفتوح، القاهرة، الذي فقدت فيه أدميتها الى مكان جديد آخر أكثر انفتاحا، الإسكندرية، من أجل إعادة بناء ما تهدم من حياتها. ونتيجة لذلك، سيساهم هذا الفضاء الجديد، الذي ستجري فيه الأحداث، في تشكيل البناء المكاني في النص الروائي وسيربطه بأفق لا محدود من الدلالات التي تشير الى رغبة البطلة الملحة في حياة جديدة بكل ما فيها من صخب وهدوء.
فإذا كان فضاء القاهرة وهو الفضاء الجغرافي المفتوح الذي جرت فيه أحداث مأساوية قد هزَّ بطلة الرواية من أعماقها، فإن هذا الفضاء على الرغم من انفتاحه قد توالد على خلفيته فضاءات مكانية مخيفة جعلت بطلة الرواية تسترجع من خلالها تجربتها الخاصة وما أصابها من معاناة بعلاقتها بزوجها عماد. هنا تتحول هذه المعاناة الى حالة من الرفض التام للحياة في هذا المكان وهو ما انعكس على شخصية بطلة الرواية المثقلة بتجمد الأحاسيس وتبلد المشاعر وتصاعد توتراتها النفسية، وهذا ما حدا بها أن تبحث عن مكان أكثر أمنا واطمئنانا، فبدت لها مدينة الإسكندرية كأنها الحيِّز المكاني الوحيد الذي يستوعب طموحها باعتباره عالم ينعقد عليه أمالها في حياة جديدة.
في الطريق من القاهرة الى الإسكندرية، تتشكل عناصر الرواية من أحداث وشخصيات أساسية ومكان وزمان من خلال حيِّز القطار المكاني المتحرك الذي يساهم في بناء مستقبل البطلة ويبعث فيها روح التمرد على ماضيها المؤلم. تتطلع الهام من نافذة القطار فترى كل شيء يمر الى الخلف سريعا، فكلما ابتعد القطار عن نقطة الانطلاق في القاهرة كلما تذكرت أشياء لم يكن لها أن تتذكرها إلا بعد ركوب القطار ولولا سرعته هذه لما شرَدت بذهنها في ذلك الحب الضائع الذي كانت تتماه لنفسها. فكما أن عنوان الرواية يرمز الى القلب المتقلب باعتباره المكان النفسي الشعوري الذي لا يستقر على حال، فان القطار، ذلك الحيِّز المكاني بديناميكيته المتحركة، قد احتل مكانة مهمة في بنية الشكل الروائي التي انفردت بها الروائية الأستاذة أماني من خلال لغتها الأدبية التي مزجت فيها بين الفصحى والعامية المصرية وجعلت القارئ ينظر الى كل ما لم يظهر على سطح النص داخل القطار برؤية تأويلية تجعله قادرا على اكتشاف هوية بطلة القصة «الهام» وهي تنظر الى ماضيها المؤلم فتمر أمامها الذكريات سريعة كسرعة القطار، ومن ثم تتواصل ذاكرة السرد استدعاء أدق تفاصيل حياة البطلة، الأمر الذي يجعلها تجترّ ذكريات مؤلمة ترتبط فيها صور المكان بعوالم من العلاقات الدلالية التي تشير الى ما يعتمل في داخل البطلة من أحاسيس ومشاعر مؤلمة.
دقة العدسة التصويرية للروائية الأستاذة أماني في التقاط ما يجول بخاطر بطلة الرواية أكسبت البطلة في حوارها الداخلي مع ذاتها صورا حيوية نقلت النص من الركود الدلالي للحيز المكاني في القاهرة حيث كانت تعمل وتعيش مع زوجها عماد إلى تصوير متحرك لحيز القطار بفضائه المغلق. ستبرز في هذا الحيز المتحرك دلالات حوارية بين البطلة ومراد، الذي يجلس الى جوارها في رحلتها من القاهرة الى الاسكندرية، تتميز بشحن معاني النص بأبعاد دلالية معنوية من خلال نافذة الذاكرة التي تجعلها تقارن بين الطبيبين عماد ومراد. فالاسم الأول يمثل للبطلة ذكريات كئيبة جعلها تشعر بالاختناق في فضاء القاهرة المكاني المفتوح، بينما سينعقد على الاسم الثاني آمالها المستقبلية في فضاء الإسكندرية الأكثر انفتاحا.
ختاما: نستطيع القول إن استثمار الكاتبة للظاهرة المكانية، في سياق هذا النص الروائي، يفرض حضوره بقوة ويصبغه بصبغة ذات كثافة دلالية عالية أسهمت في استحضار التفاصيل الحياتية المؤلمة للبطلة إلهام. إن نجاح الروائية الاستاذة أماني في تصوير الحالة النفسية للشخصية الرئيسية، وفق معجم لغوي تم انتقاؤه وتوظيفه بعناية شديدة، يؤكد على قدرة الكاتبة على توصيل أفكارها للقارئ بلغة سردية متماسكة.
** **
أيمن منير - أكاديمي وكاتب مصري