يمكن للقارئ في لحظة التأمل الأولى لعنوان المقالة أن يقر مبدئيا وذلك بالاستناد على أدوات التحليل الفينومينولوجية بمسألة تعليق الحكم على مفردة الزمن، وهذا ممكن لأن استحضار مفردة الزمن لا يقصد به هنا ذلك الزمان الفيزيائي وإنما ذلك الزمان الكامن في وعي الفلاسفة وخبراتهم ووجدانهم، نظرا لاتصالهم المباشر بالعقل وما يصاحبه من انطباعات وانفعالات. ومن أشهر هذه الأطروحات هي أفكار المؤسس إدموند هوسرل والتي أفضت مع تقدم الوقت إلى العديد من الدراسات تتعلق بالجوانب التطبيقية للمنهج الفينومينولوجي كمحور أول في هذه القراءة، إلى استحضار فكرة توظيف التقنية في هذه الدراسات كمحور ثان.
يمكن اعتبار الفينومينولوجيا حركة فلسفية تقترب من دراسة الإنسان وثقافته بشكل مختلف عن الأسلوب المنطقي الإيجابي الذي يتم استخدامه في العلوم الطبيعة.
في البحث النوعي معرفة يمكن قياسها عن عالم الحياة البشرية من خلال معايشة الذوات الأخرى كونها طريقة فعالة في إعطاء الكلمات والمعاني التفاعل الرمزي المطلوب. وعي من الباحث متقدم يبحث عن وجهات نظر المشاركين في البحث، ويفسّر فهمهم الخاص لتجاربهم وأحداثهم الحياتية.
الفينومينولوجيا تقليد الفلسفي يعود إلى السنوات الأولى من القرن العشرين ويركز على الظواهر (ما ندركه) بدلاً من واقع الأشياء (ما هو حقًا)، وتركز على تجارب التفكير والمعرفة: كيف يمكن للظواهر تظهر للوعي. هذا النوع من البحث يسعى لشرح طبيعة الأشياء من خلال الطريقة التي تعتمدها ذات -موضوع الدراسة- وتعتمد على افتراض أن الجوهر الكوني لأي معرفة فينومينولوجية تعتمد في النهاية على كيفية تحليل التجارب الحياتية، إذ أخذ في الاعتبار أن «الإدراك» حقيقة.
لا يمكن لأي بحث علمي أن يدعي الحالة الظاهراتية ما لم يكن مدعوما بتوظيف الإيبوخا والاختزال. هذا الادعاء مبني على الأفكار الموجودة لدى هوسرل.
تعتبر الظواهر في جوهرها مسعى فلسفيًا. لا تتمثل مهمتها في المساهمة في نطاق معرفتنا التجريبية أو زيادته، بل تتمثل في الرجوع إلى الوراء والتحقيق في طبيعة وأساس هذه المعرفة. بالنظر إلى الطبيعة الفلسفية المميزة لهذا المشروع، قد يتساءل المرء بشكل معقول عما إذا كان يمكن للظواهر أن تقدم أي شيء ذي قيمة للعلم؟
هوسرل كان مهتمًا بشكل أساسي بمسألة كيفية تسهيل الدخول إلى التفكير الفلسفي الصحيح، وليس في تقديم إرشادات ملموسة حول كيفية جمع البيانات وتحليلها أو كيف لإجراء مقابلات أو تجارب. وبالتالي قد يكون هناك هامش من الخطأ عندما يؤسس إطار للعمل المنهجي بشكل أساسي على ملاحظات هوسرل حول كيفية تطوير فينومينولوجيا غير فلسفية.
تثير هذه الحقيقة أسئلة مهمة حول العلاقة بين الظواهر الفلسفية والظواهر التطبيقية. الأسئلة التي تحيي الخلافات الكلاسيكية حول طبيعة البحث الفينومينولوجي خارج القالب التنظيري.
لهذا الموضوع أهمية في الأبحاث الغير فلسفية والتي يكون ارتباطها أقرب للمؤسسات الأكاديمية وقد تشكل عائقا أو منطلقا لتقديم أعمال بحثية أكثر عمقا تتعلق بالجانب التطبيقي.
يقوم باحثو علم الظواهر بتسجيل وتحليل معتقدات ومشاعر وتصورات الآخرين الذي يتطلعون إلى كشفه فيما يتعلق بالشيء الخاص الذي تتم دراسته. التركيز فقط على آراء الأشخاص الذين عايشوا هذه الظاهرة. مع الإشارة إلى أن ملامح الوعي المتقدم للباحث قد يكشف له عن بعض الظواهر الوجودية التي تركز على فهم تجارب الآخرين من خلال وجهة نظرهم. أو على علم الظواهر التأويلي الذي يركز على خلق معنى وبالإمكان كشفه بامتياز من خلال التنقل بمهارة ما بين القصدية وتعليق الحكم لمجموعة من التجارب الحية لذوات متعددة. أو على علم الظواهر المتعالي الذي يركز على كيفية ظهور الظاهرة في وعي واحد على نطاق علمي أوسع.
وجُدت استراتيجيات بحثية نوعية مختلفة مستخدمة في أبحاث الرعاية الصحية، بحيث تكون «الحوارات» هي الطريقة الأكثر شيوعًا لجمع البيانات النوعية. الغرض منها هو فهم واكتساب حجم المعلومات المكتسب من التجارب الحية للمشاركين التي توفر لنا بدورها حجم المعرفة المفاهيمية والنظريات ومدى تأثيرها لذوات أخرى. المنهج الفينومينولوجي هو المفضَّل هنا من أجل استخراج المعاني؛ لأنه يوفر استجابات متعمقة وسياقية ومفتوحة من المشاركين في البحث حول وجهات نظرهم وآرائهم ومعرفتهم وخبراتهم ومشاعرهم.
الحوارات أو المقابلات المباشرة هي الطريقة الأكثر تنوعًا المستخدمة في البحث النوعي. إنها وسيلة لاكتساب نظرة ثاقبة لوجهات نظر المشاركين وآرائهم. يمكن أن تكون أساليب المقابلات المستخدمة منظمة أو غير منظمة، فهي تتألف من أسئلة مفتوحة محددة سلفًا. هذه الأسئلة مرنة، ويمكن تعديلها وفقًا للموقف والاستجابة. بتطبيق المنهج الفينومينولوجي نضمن أن المشاركين يجيبون عن الأسئلة المتعلقة بموضوع البحث. كما يُسمح للمشار كين بالتعبير عن موافقتهم أو عدم موافقتهم مع الآراء التي تطرح. يمكن إجراء المقابلات مع فرد أو في مجموعات. المقابلات المتعمقة هي طريقة لفظية مباشرة ومفصلة ذاتية تُستخدم لاستخلاص سرد تفصيلي من المشاركين. ويعتمد أساس المقابلة الجيد على احترام المشاركين وفهم وحساسية القضية التي تتم مقابلتها إلى جانب ضمان السلامة والسرية.
لا بد للباحث الفينومينولوجي أن يمتلك مساحة من الوعي المتقدم بكل ظاهرة علمية يدرسها.
كيف أمكن دراسة «المرض» فينومينولوجيا؟
يمكن للباحث إقامة التجربة الحية لمجموعة من المرضى يجمعهم مرض واحد لاستكمال التفسيرات السببية التي قدمها لنا الطب في فحص. فعندما نعمل ينحرف انتباهنا إلى الخارج بعيداً عن أجسامنا. لا يبدو أن الجسد غائب، بل أن تجربتنا معه تكون في الخفاء. وعندما نمرض يكون انتباهنا قد انجذب إلى ذلك الجزء المعطل فجأة ليصبح محور الاهتمام الأول. يظهر الجسد هنا ككائن غريب (كوني أنا، لكن لست أنا).
علاقتنا بالعالم تتضمن علاقة من القصدية الحركية، وبنية زمنية، وبيئة بشرية، وحالة أخلاقية وجودية. هذه العلاقة الفريدة التي تربط الإنسان بالعالم، هي ليست فقط مادية، بل هي أيضًا جزء لا يتجزأ من المعنى الثقافي والاجتماعي وهي في نهاية المطاف حالة وجودية، وليست مجرد موقف مادي. وهذا هو ما «يحدث» في المرض.
من أجل وصف تجربة المرض، تكون الحاجة ملحة إلى نهج ظاهري يمكنه تفسير الدور المركزي للجسم في حياة الإنسان والاعتراف بأولوية الإدراك. ويعتبر فهم ميرلو-بونتي للظواهر إضاءة كاشفة لجذور الخبرة الإنسانية التي تأسست على الإدراك.
يرفض بونتي وجهة نظر عقلانية على نطاق واسع بسبب عدم إمكانية الفصل بين التجسيد والإدراك والعمل والذاتية، يمكن للتغييرات التي تطرأ على جسد المرء أن تؤدي إلى تغييرات بعيدة المدى في إحساس المرء بذاته. رفض التجريبية لفشلها في محاولة وصف كيفية حدوث الأفعال الإدراكية، بسبب وجهة نظر التجريبية لبيانات المعنى كوحدة أساسية للتجربة.
ما يقدمه بونتي، هو «طريق ثالث» جديد، هو نظرة إلى الإنسان بشكل أساسي مجسد، كموضوع جسدي ينشأ من أفعال الإدراك.
إن نوع المخلوقات التي نحن عليها مقيد بأنواع الخبرات التي نمتلكها وأنواع الأفعال التي نؤديها، والتي تشكلها أجسادنا وأدمغتنا.
لا يمكن أن يكون هناك نية عقلية بدون توجيه جسدي في العالم. الوعي هو الوجود تجاه الشيء من خلال وسيط وذلك الوسيط هو الجسد، وفي حركته استهداف الأشياء.
المستقبل الفينومينولوجي
بسبب التطور التقني المتسارع قامت دراسات جديدة وما زال بعضها في طور التحديث المستمر، ومن هذه الدراسات المنهج الما بعد فينومينولوجي. ففي هذا المنهج تتكيف ما بعد الظواهر مع الجانب البراغماتي، ويؤكد هذا المنهج على استخدام الاختلافات الظاهراتية كأداة تحليلية للتعبير عن علاقتها المتناقضة بالتقليد الفينومينولوجي؛ من ناحية، فهو مستوحى من التركيز الظاهري على الخبرة والواقعية، ولكنه من ناحية أخرى ينأى بنفسه عن الرومانسية فيما يتعلق بالتكنولوجيا ويأخذ نقطة انطلاقه في التحليلات التجريبية للتكنولوجيا الفعلية.
تشترك كل هذه الدراسات في شيئين مشتركين على الأقل. فهم يدرسون التكنولوجيا من حيث العلاقات بين البشر والمصنوعات التكنولوجية، مع التركيز على الطرق المختلفة التي تساعد بها التكنولوجيا في تشكيل العلاقات بين البشر والعالم. إنهم لا يتعاملون مع التكنولوجيات باعتبارها مجرد أشياء وظيفية ومفيدة، ولكن باعتبارها وسيط للتجارب والممارسات البشرية. وثانيًا، يجمعون بين التحليل الفلسفي والتحقق التجريبي. بدلًا من «تطبيق» النظريات الفلسفية على التقنيات، يأخذ النهج ما بعد الفينومينولوجي التقنيات الفعلية والتطورات التكنولوجية كنقطة انطلاق للتحليل الفلسفي. ومن أشهر الأسماء المرتبطة بهذا النوع من الدراسات دون إيهد وبيتر بول فيربييك وكيكوك لي.
** **
- ماجد الشيباني