في كل مرة أشاهد التحولات الصراعية البشرية التي هي من طبيعة الإنسان ابن الطبيعة الثورية، التي ترفض دوما السكون والجمود متى ما أراد الإنسان أن يستنطقها ويرتمي إلى حقائقها التي لا تنتهي وترفض الإجابة، لذا كان الإنسان في خضم ثورتها منشئاً لمسالك فهمها وتطويع حقائقها في فهمه الخاص داخل فضائه العمومي الذي هو الفضاء العمومي الذي يكوّن الإنسان في سياقه المكاني والزماني أو إذا شئت استعرت عبارة ابن خلدون «لا يخرج السياق الفكري للإنسان عن المكانة الاجتماعية والبيئة واللغة» إذ أني أذكرها بتصرف، لذلك كان الإنسان ولازال محكوماً في فضاءٍ عمومي يغذي أُحاديته البيئية ولقد نجدُ أن موضوعه التوفيق بين العلم والإيمان، كانت أولى براعم التنوير في الحضارات الإنسانية لاسيما في تتويجها في آخر وأهم محطة حضارية توصل إلى الإنسانية التي حصلت في منتصف القرن الخامس عشر، ولكن ليس بإمكاننا إطلاق ذلك المفهوم وكـأنه حصل من تلقاء نفسه بدون بوادر وبذور أولى كوّنت الجذور الصلبة الأوروبية.
الواقع يصف لنا بأنها أعسر عملية لأثر العقل على المادة، واٌثر المادة على العقل، وكأنها اتحاد ضمني تلك العملية في سياقها التاريخي تبلورت من خلال مخاضات وعمليات قيصرية خرجت من رحم الصراعات من تعرجاته وتلافيفه.
إن مفهوم التنوير ليس إلا صراعا ضد الذات ومع الذات- كما يصفها ديدرو في موسوعته-، إن الصراع الأوروبي في سياقه وعتماته كما لأي عصر نوره وظلامه، وإنني إذ أعني هنا الصراع التوفيقي بين العلم والإيمان أو الفصل فيما بينهما، الذي ثار مع غاليليو وكوبرنيكوس وكيبلروبين الصرخة الأصولية التي وقفت بشراسه منددة بتاريخها الكنسي لألف عام، إن ذلك الصراع مع الأصولية المهيمنة على الحقائق المطلقة بدأ مع الشك الديكارتي الذي يُجهل كثيرا عن عدم جهره في شكوكيته لكي ينجو بجلده ويتابع مشروعه وأبحاثه بهدوء لذلك هو نفسه يقول في مقالة في المنهج رسالته الأولى الشهيرة « قررت بأن أخضع لقوانين بلادي وتقاليدها وأن أتمسك دائما بالدين الذي أولدني الله فيه وأنعمَ عليً منذ نعومه أظفاري» كما نرى في عبارته المذكورة في رسالته الذي أزعمُ بأن ديكارت كان يخشى المد الأصولي الذي لايعترف بتلك الهرطقات خصوصاً بعد ادانه غاليليو 1663.
وقل على كانط الموقف نفسه الذي يكمل القفزة الفكرية ولكن كانط التي أُسميها اللحظة الكانطية حيث أنه امتد إلى العقائد المقدسة يقول في ذلك « إن قرننا هو بشكل خاص قرن النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء، وحده الدين محتماً بقداسته، والتشريع القانوني متردعاً بجلالته، يريدان أن ينفذا منه ولكنهما يثيران عندئذ الظنون والشكوك الحقّة حولهما ولايمكنهما أن يحوذا على تقديرنا الصادق لأن العقل لا يقدم التقدير إلا للأشياء التي تقبل بأن يُطبَق عليها التفحص الحر والنقدي» نجد أن بذور التنوير وإن كانت بدأت قبل كانط إلا أنها نضجت على يديه، فمنذ القرن السابع عشر نجد المفكرين يُطبقون منهجيته الكبرى على النصوص الدينية- هنا ستتشخّص لديَّ مسيرة إبراهيم النظًّام المعتزلي الذي قاد الثورة الفكرية في الإسلام ممتداً ومُمَهداً إلى مذهب المعتزلة العقلي الذي بدأ مع واصل بن عطاء عندما اعتزل مجلس الحسن البصري معلناً أصول المعتزلة الخمسة في المسيرة الإعتزالية الأولى- أعود إلى منهجيةِ ما بعد كانط التي دشنها في قراءاته على النصوص الدينية ، حيث يبرز فيما بعد الأبرز والِأشهر الكبير سبينوزا الذي قال عنه شاعر ألمانيا الكبير غوته» من لم يكن اسبينوزياً، لم يكن تنويراَ» و بطبيعه الحال سبينوزا كان من ضمن باكورة وجملة من المفكرين والفلاسفة، حنى وصل آثره الفكري على اللاهوتيين وأخص بالذكر هنا البروتستانتي الأميَز بيير بايل-والذي سيصبح مرجعاً في في أهم الصراعات الفكرين بين الكاثوليكيين والبرتستانتيين وأيقونه المساءلة والمراجعة- وكذلك ريشار سيمون وصولاً إلى جون لوك.
هذا من جانبِ البذور التي شكلت أولى أزمات الفكر الأوروبي، وأنا أستعير مشهد الأزمة من خلال بول هازار في كتابه الشهير ( أزمة الفكر الأوروبي) حيث قسّمَ الوعي من خلال تراتبات أزمته كالتالي :
أزمة متموضعة بين عصر النهضة وعصر الثورة الفرنسية 1789 التي مهّدت له، وبلا شك أننا إزّاءَ أزمة ستكون أكبر طفرة في تاريخ الفكر البشري، حيث إنها قلبت العالم القديم وأحلّت العالم الحديث محّدثةً طرفي صراع :
الطرف العقلاني – وهذا كنتُ أستشهدُ به في السادة المعتزلة بمعيّة البروتستانت في الضمير الكنسي
الطرف الأصولي- وهو الطرف الأساسي والقائم في الضمير الكنسي لعشرة قرون وأكثر.
هذا الهيجان الذي أثارته مجموعة الموسوعة العلمية أمثال فولتير، وديدرو، وروسو، ومن ثم كانط مقابل الإرث والتاريخ الكنسي الذي يضرب أطنابه لعدة قرون، هو ما ولَّد تلك المعارك ضحيتها فلاسفة ومفكرين ولاهوتيين عقلا ء أمثال بايل وبترارك وثائريبن علميين لذلك كان هذا الصراع بدايات الحداثة البشرية في زمامها الأوروبي لأكبر حضارة يشهدها الإنسان الحديث ليُقسّم العالم إلى ماقبل الحداثة وما بعدها وأيقونة تراثية.
عندما أذكر في حديثي الأصولية المسيحية فأنا أعني بهذا الأصولية الكاثوليكية التي تربعت على العرش الكنسي شرقا وغرباً رافضين أي سلطة حتى ولو كانت لاهوتية بأن تهز عرشهم الأكبر، لذلك بدأوا في التنكيل والتعذيب لكل مخالف من الأفكار الفلسفية والسياسية وأهمها الأصولية البروتستانتية .
أستشهدُ هنا بالسادة المعتزلة لأرجع إلى بدايات التكوين وأصول الاعتقاد لديهم فالمعتزلة يمثلون العقل الحاكم في النطاق المعرفي (الأبستومولوجي) في الإسلام فهم يقولون لا سلطة معرفية سوى العقل فالعقل وحده قادر علة معرفة الأخلاق وبدوره كذلك على التقبيح والتحسين-وأجد تشاركاً مع الأشاعرة وعموم المتكلمين- وأن للأفعال حُسناً وقُبحاً فمدار الحسن والقُبح عند المعتزلة على العقل- والحق إبداء وتفصيل هذا الحق لامجال له في هذا الحديث- ما يجعلني أقفُ بين مساري المعتزلة والبروتستانتية هو بيان التقارب بين الحفاظ على السلطة اللاهوتية وبين التنكيل لمخالفيهم الذي ولَّد الصراعات الفكرية وبدروها كانت أولى المحاججات الفكرية بين العقل العلمي واللاهوتي سواءً في الكنيسة أو الإسلام، وبالرغم من أن الحنابلة لم يكونوا بالصورة الكاثوليكية من حيث التعذيب والتنكيل الذي طال مثقفي الطبقة الليبرالية وحرق المفكرين واللاهوتيين، إلا أن الصراع قائم ومضمر في النصوص الجحيمية التي تجيّرالحق المطلق بالحديث باسم الله وتمثيل ظل الله على الأرض. لذلك جرى إسقاط الفتاوى التنكيلية والتنفير من المذهب الاعتزالي، وكذلك للإنصاف جرى التنكيل من طرف المعتزلة على السادة الحنابلة فأنا لستُ بصدد الانتصار لمذهب ومشرب بقدرما يهمني توضيح طبييعة الصراعات الفكرية التي لاتنشأ إلا في حق امتلاك الفضاء العمومي في الأفراد من خلال الكنيسة والمسجد والمعبد. ولكن كما ذكرت سابقاً هو صراع سلطوي انتصر فيه الكاثوليك وانتصر فيه الحنابلة والمتكلمين معلنين بذلك أكبر جمود في العقل العربي وإغلاق جُهداً واجتهاداً سرمدياً إلى يومنا هذا.
وبالنتيجة سنرى الأصولية الكاثوليكية وعلى رأسهم لويس الرابع الذي أذكرهم لشدة بأسه وغضبه وجبروته وكما يُسمى بالشمس مما بطش ونكّل في البروتستانت ونفيهم خارج فرنسا، معلناٍ شعاراٍ أزليا « مذهب واحد، قانون واحد، ملكُ واحد» تحت شعار معلن « اقتلوا كل من ليس كاثوليكياً»
ولكني في ختام هذا المبحث أقول ليس من السهل أن نسقط على العقلية المتعصبة للأساس ذلك الزمان لقيم ومفاهيم القرن الواحد والعشرين فهذا يُعتبر إسقاط ومغالطة تاريخية، لذلك يجبُ أن نفهم حيثياتهم وظروف القرن السابع عشر، كذلك يجب أن نفهمَ في حيثيات القرن العاشر عن المعتزلة، لأنه ليس من الحياد والموضوعية أن نسقط مفاهيم كالتعددية الدينية بمفهومها السياسي لاستقرار الدولة والبيروقراطية أو مفاهيم كحقوق الإنسان التي لم تستجد إلا حديثاً وتبلورت بفعل التراكمات المعرفية وتقدمية العقل الذي ينشده البروتستانتية والمعتزلة في مفاهيمها في ذلك الوقت.
** **
- عبدالإله عبدالله الطويان