(القيود التي يضعها الإنسان على نفسه أكثر قسوة من القيود التي تفرض عليه، لأنه سيسعى إلى كسرها، أما قيود نفسه، فإنه سيغلّفها بأغلفة كثيرة ويوهم نفسه بقيمتها رغم كل مساميرها التي تدمي).
دموع الرمل - صفحة 92
(1)
أحالتني الجُمل الافتتاحية لرواية دموع الرمل: (اليوم هو الذكرى الأربعون لوفاة جدتي، وحينما أقول ذلك فلا أحتفل حقيقة بهذه الوفاة وإنما أحتفل بالذاكرة التي رحلت)(2) إلى افتتاحية رواية الغريب: (أمي ماتت اليوم، وربما كان بالأمس، لست أدري)(3). والإحالة هنا تكمن في خلق مُقاربة بين الجدّة عند شتيوي الغيثي صاحب دموع الرمل وبين الأم عند ألبرت كامو صاحب الغريب، وعن فلسفة اختيار كل واحدةٍ منهما؛ فدلالة الأم تقود إلى دوافع نفسية وسلوكية وتاريخية، بذات القدر ينطبق الأمر على الجدّة، التي أدخلتنا مباشرة إلى صحراء الرواية - وأقول صحراء الرواية - لأن الصحراء كانت الفضاء المكاني الأبرز الذي تدور فيه أحداث الرواية. وليس المجال هنا لمقارنة الروايتين، وإنما هي إحالة فقط حفزت ذهني.
الجدّة في المخيال العربي ظلّت أصل كل حكاية، إما هي من تحكيها بلسانها مستعينةً بمخزونها المعرفي وتجاربها ومخيالها، أو تُحكى عنها وعن مراحل حياتها التي لن تقل غرابة ودهشة وتفرداً؛ فالجّدات شِعاب المجتمع البدوي في الصحاري الشاسعة، وأركان البيوت في المجتمعات المدنية، وحاكماتها الحقيقيات في الاثنين. وهكذا كانت (نويّر) أم ضاري ووضحى وزوجة أبي سالم محور القصة في رواية دموع الرمل.
(2)
في مئة وأربعة وأربعين صفحة من القطع المتوسط وخمسة فصول تتفاوت طولاً وقصراً، صدرت رواية دموع الرمل للكاتب السعودي شتيوي الغيثي، وهو شاعر وأكاديمي حاصل على درجة الدكتوراة ومُشّتغل بالشأن الثقافي، إما باحثاً أو مدرّباً أو مُتحدّثاً على المنصات. وذكر هذا التلخيص، الذي قد يكون مُخلّاً عن سيرة الكاتب، سيشكّل لك أيها القارئ خلفية تستطيع من خلالها فهم حدود تحركات الكاتب واشتغالاته، والتي ستساهم إلى حد ما في فهم ما يكتب؛ فما المرء إلا ما يفعل ويقول ويكتب.
النسخة التي بين يديّ هي الطبعة الثانية من الرواية التي أصدرتها دار تشّكيل، ولم تتجاوز عاماً منذ صدورها الأول، مما يفسّر حالة التلهّف والقبول التي لاقتها الرواية في وقت وجيز. على الرغم من أن ديباجتها الخلفية كُتب فيها: (هناك في صحراء الله الواسعة، حيث يرتحل البدو فوق رمالها، وأشباحها تأخذهم الحياة إلى مصائر لا يعرفونها. وهناك تنتقل حكايات كثيرة ترويها شفاه إلى شفاه)(4) إلى آخر المُجتزأ، إلا أن القراء تسارعوا إلى اقتنائها وقراءتها وتداولها والكتابة عنها أيضاً؛ مما جعل مهمة كتابتي هذه انتحارية وسط ما كُتب عنها، وماذا سيضيف في صحراء - ولا أقول في بحر - ما كُتب عنها.
ولكن في زمن الذكاء الاصطناعي والسيارات الكهربائية والفيروس المتحوّل وثورة منصات العالم الافتراضي، يبرز السؤال: ماذا يريد الناس برواية تتحدث عن الصحراء والموت والبدو؟
هذا أمر وجدت إجابته في الصفحات الأولى لها، حيث تكمن في سحر الحكاية وسبر أغوار النفس البشرية المتلهّفة دائماً للمُختلف من الأشياء. إنها الرغبة الدفينة في إيجاد حكاية جديدة نقتات عليها ريثما نجد حكاية أخرى أو تبقى معنا هي للأبد.
(3)
في دنيا الكتابة عن الروايات، يمكنك تلخيص قصتها وأحداثها في عُجالة أو مقطع صغير مثل ما يحدث في الأفلام، وهي مدرسة لا أرفضها، ولكن أجدها إما كانت خادعة أو مُخلّة بحيث تظلم النص. ولكن سأحاول أن أقوم بذلك حتى أحيطك، سيدي القارئ، بما لم تُحط به علماً.
فالرّاوي يحكي حكاية جدته نويّر بعد أربعين عاماً من وفاتها، منذ ولادتها في مجتمع بدوي قاسٍ وسط صحراء لا صوت فيها إلا عواء الذئاب ورغاء الإبل وطلقات البارود التي تدفع السارقين بعيداً وصرير الحشرات، وسط اثنين من إخوانها الرجال الذين ماتوا في ظروف مختلفة.
عاشت مع والدها بعد وفاة والدتها يوم ولادتها، مما جعلها ترّضع من سبع نساء في القرية حين تدافعتها المرضعات في مضارب القبيلة. ثم لحق بهم أبوها في معركة البكيرية، بعد أن أوصى أبا سالم عليها. وهناك نتجه إلى حكاية أخرى معه منذ تلويحه بالوصية وإلى نهاية الحكاية.
هذا المُستقطع السريع أبان حالة الوحشة التي عاشتها نويّر والظروف التي حكمتها وحددت مسار حياتها، فالصحراء التي فُرضت عليها كمكان للعيش بكل صعوبتها وقسوتها وشراستها انعكست على طبع نويّر ونفسيتها وسلوكها. فكما جرّدتها الحياة من المباهج، تجرّدت نويّر، بطلة الحكاية، من العاطفة والحنان والرقة، ولازمتها غلظة لن يستغربها القارئ.
تقاسمت البطولة - إن صح إطلاق هذا المصطلح - مع أبا سالم زوجها وأب أبنائها، فهو أيضاً جسّد شخصية البدوي الشهم والكريم الذي يفي بعهوده و يكرم ضيفه ويحمي عشيرته ويقاتل في هذه البيئة الضارية.
مع ميل خاص انتابني بأن البطل الحقيقي هو الصحراء نفسها، وما عليها من الناس ليسوا سوى جزء صغير من عوالمها؛ فهي تحمل في داخلها أسراراً وحكايات وأجساداً وتاريخاً وحروباً. فذات الصحراء التي تُنصب فيها الخيام وتسقى الأغنام ويتوالد فيها الناس تدور فيها الحروب الضروس، ويتساقط فيها الأبطال مضرّجين بالدماء التي تسقي رمالها أيضاً، إلى الحد الذي جعلني أشفق كثيراً على كاتب الرواية، فكيف سيخرج من كل هذه القساوة حكاية تصلح للقراءة والتداول؟ الأمر الذي نجح فيه باستخدام لغة رشيقة وحية ومرواغة ومهذّبة حتى في أكثر اللحظات عنفاً وحرجاً.
أتذكر هنا مروره الراقي جداً على الأمور التي تخصّ المرأة في ميعادها الشهري أو في ولادتها أو حياة الليل.
(4)
هذه حكاية ممتعة وصالحة للتداول، حكاية حلوة وذكية، وفيها من الألاعيب السردية ما يجعل دفعة من الدوبامين تسري داخل رأسك - هذه الحالة يعرفها القراء جيداً؛ حيث تصاحبها بعض الأحوال مثل قفل الكتاب للحظات أو الإطراق إلى أعلى قليلاً، ومن ثم معاودة القراءة مرة أخرى. - ولكن هذا لا يمنع أن نقول إنها رواية فلسفية، تاريخية، اجتماعية، أنثروبولوجية، بها محمولات وقضايا فكرية وسياسية وثقافية ودينية، ناقشت التعصب الديني والعنصرية واستفادت من الفلكلور والتراث الشعبي والحكايات الشفاهية والمراجع التاريخية ومعايشة المكان أيضاً؛ فالكاتب يرى نفسه بدويًا وابن الصحراء العارف بمجاهيلها.
هذا غير السخرية التي تجدها هنا وهناك داخل مقاطع النص، مما يكسر حدة الصحراء وقسوة البداوة، مما يجعلك تتساءل: هل البداوة هي ما أكسب هذا السرد رونقه أم السرد هو من أبرز جمال البداوة؟
إضافة إلى قيم تناثرت هنا وهناك، فمن المشاهد التي يمكنني أن أستدل بها: في إحدى المعارك حينما هَوَى أبو نويّر على أحدهم ليقتله، دارت في ذهنه أسئلة وأفكار تتعلق بهذا الشخص الذي يترجاه ألا يغرس فيه سيفه، عن أسرته وأهله وعن جدوى القتال مع شخص من جلدتك وبلدك. ولنقرأ من الرواية: (ما لي ولهذا الرجل! أترى له أولاداً أو زوجة؟ أترى له بنتاً تنتظره كما تنتظرني نويّر الآن. بهدوء أنزل يده)(5).
هذه الفكرة أحالتني إلى أعمال خالدة ناقشت الحروب من هذا الجانب، كرواية كل شيء هادئ في الميدان الغربي للكاتب الألماني إريك ماريا ريمارك، التي كتبها في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ومشروع البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش، الحائزة على جائزة نوبل، التي كتبت روايات (فتيان الزنك - ليس للحرب وجه أنثوي - زمن مستعمل - آخر الشهود)، والتي تناولت فيها آثار الحروب الروسية - الأفغانية وغيرها. الأمر الذي أعجبني في هذا العمل هو أنني للمرة الأولى أجد مثل هذه الفكرة في رواية عربية. وربما قد سبق شتيوي آخرون في الكتابة عن هذه الفكرة، ولكن لم تقابلني من قبل.
(5)
إذا كانت هذه الرواية الأولى للكاتب، فنحن موعودون براوٍ متمكّن من أدواته، يعرف كيف يُمسك بأطراف الحكاية ويبيعها للقارئ - والتعبير هنا مجازي، ولا يقصد به المعنى المادي، والقارئ الذكي سيعرف ما أعني. - في الوقت الذي كانت لديه فرصة للتوسّع في الرواية حجماً بأكثر من الحجم الحالي، إلا أنه فضّل أن يُلمح ولا يصرّح، يُشير ولا يوضّح، يكتب ولا يفسر، وهي أمور يقع فيها الكُتّاب في رواياتهم الأولى، خاصة تلك التي تخضع إلى تراثهم المكاني الخاص والموغل في الخصوصية، بحيث يكون من العسير على من لم يعايشوا هذه البيئة أن يفهموا ما بداخلها.
وأجد، بكل صدق، أن شتيوي نجح في ذلك، وأن من يقرأ العمل سيجد حكاية محبوكة وممتعة وسلسة تُقدّم له أسئلة وإشارات أكثر من الأجوبة والشروحات، وتمنحه جانباً من الحياة يُحيله إلى التفكير في واقعه ويختار «صحراءه» الخاصة التي يستطيع أن يعيش فيها بعيداً عن ضغوط الحياة.
* * *
هوامش:
1 - للكاتب د.شتيوي الغيثي كتاب بعنوان (سرد البداوة) صادر عن النادي الأدبي الثقافي بالطائف سنة 2023.
2 - رواية (دموع الرمل) صفحة 9.
3 - رواية (الغريب) للكاتب البير كامي، إصدار الدار المصرية اللبنانية، ترجمة د.محمد غطاس، صفحة 7.
4 - رواية (دموع الرمل)، الغلاف الخلفي.
5 - رواية (دموع الرمل)، صفحة 65.
** **
عثمان الشيخ - كاتب ومدوّن سوداني