خضع المشروع النقدي لعلم السرد لعدد من التغيرات يصعب معها تذكر بدايته الحقيقية إلا أنه يمكن أن يكون هناك اتفاق على ظهوره في ستينيات القرن الماضي بوصفه طريقة بنيوية لدراسة النصوص المكتوبة التي تنتمي للخطاب القصصي بشكل خاص، وقد مر هذا العلم بتطورات مستمرة، حاولت تقريب الفجوة بين السرد والخطابات الثقافية من خلال توسيع مجالات البحث السردي بافتراض وجود عوالم نصية تتجاوز فكرة عالم النص المكتوب إلى عوالم جديدة، من مثل الفنون البصرية والفنون الموسيقية والحرف اليدوية وغيرها من أشكال الثقافة المختلفة، وقد أشار يوشوا ويلتسكي في بحثه الذي قدمه في مؤتمر الجمعية الثنولوجية الامريكية 1967م إلا أن الدراسة البارزة لعلم السرد لم تكن نظرية الأدب أو اللسانيات، وإنما كان الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية، ولعله كان يشير إلى الدراسات السردية للأساطير كما لدى كلود ليفي شتراوس و فلاديمير بروب.
ثم بدأ علم السرد بعد ذلك في الحركة التحولية نحو آفاق جديدة من المقاربات في اكثر من اتجاه، ولعل الاتجاه السيميولوجي لدى الناقد الفرنسي رولان بارت وقبله الاتجاه السيسونصي لدى الناقد الروسي ميخائيل باختين أهم اتجاهين ساهما في توسيع المجال الاشتغالي لعلم السرد، وقد لاقى الاتجاه الأول لدى بارت رواجًا اكثر حيث انفتح السرد على خطابات جديدة مثل خطاب الصورة وخطاب الأزياء وخطاب الحرف اليدوية وخطاب الموسيقى وغير ذلك، أما اتجاه باختين الحواري فقد كان أقل حضورًا والسبب في تصوري يعود لعدم فهم نظريته بشكل أعمق، تلك النظرية التي تركز بشكل مكثف على البحث عن الحيوات المختفية داخل عالم الرواية، فالحياة بحسب باختين غير قابلة للانتهاء بل تشمل معاني وهُويات وتستدعي تفسيرات أكثر ففي حياة كل شخص هناك حيوات غير محققة وخيارات للهُوية لم يتم إشباعها، وعليه يمكن أن تكون الرواية هي الجنس القادر على التعبير عن هذه السردية أو عن الفائض الإنساني غير المحقق كما يقول باختين، ويكمن أن نستجلي الجانب التطوري للنظرية السردية - وهو يوسع مداه واشتغاله الثقافي وينأى بمجاله البحثي عن السرديات الكلاسيكية البنيوية - في أكثر من مشروع منها كتابات الباحثة ميكي بال التي انتهت في آخر نسخة من كتابها (علم السرد 1997م) إلى أن السرد لم يعد غاية في ذاته بل هو وسيلة ترشيدنا إلى تحليل النشاط الثقافي ليصبح السرد وسيلة من وسائل تفسير الثقافة.
كانت هذه المقدمة محاولة للدخول إلى عوالم الخطاب لدى الأوركسترا السعودية بوصفه خطابًا مختلفًا ينطوي على ممارسات تجريبية لافتة، وبوصفه يشتمل على بنى وأنساق متشابكة تتعالق فيما بينها وتتفاعل لإنتاج بنية كلية تتعلق بمستويين من الهُوية مستوى الاستعادة ثم مستوى البناء، والأوركسترا السعودية هي فرقة موسيقية وطنية كان لها إرهاصات منذ أربعينيات القرن الماضي لكنها لم تتأسس رسميًا إلا عام 2021م، وهو تاريخ قريب جدًا مقارنة بباقي الفروع الثقافية الأخرى، والحقيقة أنها لم تغب بمفهوم الغياب الفعلي وإنما أقصيت لأسباب سيسولوجية مختلفة الأمر الذي جعل القائمين على الفعل الموسيقي في السعودية يستشعرون طول المدة التي يصعب تجسيد تفاصليها في فترة وجيزة؛ لذا حاولوا في الثلاث سنوات الماضية اختزال التجربة الموسيقية السعودية لتقديم عصارة مركزة تجسد الهُوية الفنية السعودية بكل تجلياتها.
ومن أجل الوصول لهذه الغاية فقد استثمر الخطاب الأوركستري السعودي كل الممكنات الجمالية والفنية والعلاماتية في تقديم خطابه ويعد التركيز على عنصر السياق بوصفه أحد العناصر الستة في العملية التواصلية التي أشار لها جاكبسون أهم ما تم استثماره في هذا المقام ولكن بطريقة مختلفة عن مفهومه السابق، فإذا كان السياق لدى جاكبسون هو المرجعية الاجتماعية التي ينشأ فيها الخطاب ويفهم في ضوئها، فإنه هنا يحضر في الخطابات الأخرى تحديدًا تلك الغير معتمدة على اللغة/ الكتابة مثل الصورة والموسيقى وفق مبدأ جديد يقوم على اللحظة/ اللذة كما يقول رولان بارت، فالخطاب الموسيقي غير محتاج لسياق يمر من خلاله ويحدث تأثيره وفق تشكلات ذلك السياق، وإنما يتميز بجذب مباشر للانتباه يستثمر اللحظة الجمالية فيحدث ما يشبه الوخز/ التأثير الجمالي، ويصبح الخطاب وفق هذا السياق الجديد بحسب تعبير بارت : بمثابة الحمل الذي يرفعه المبدع شيئًا فشيئًا والمتلقي هو العابر الذي يقع الحمل على رأسه دفعه فيحس في لحظة تأثيرًا جماليًا كاملًا ، وهذا السياق في تصوري يمكن أن يكون مشتركًا بين كل اللغات والناس وهذا سر تميزه.
وبالعودة إلى الأوركسترا السعودية نجدها في تاريخها القصير جدًا قدمت أربع حفلات في أربع مسارح عالمية( باريس، مكسيكو، نيويورك، لندن)، وقد استحضرت في هذه الحفلات أربع سياقات هي سياق الأغنية الشعبية، سياق الأغنية الحديثة، سياق الأغنية الو طنية، سياق الفلوكلور والرقص الشعبي، وهي سياقات تمثل بنى متنوعة تفاعلت فيما بينها لإنتاج بنية كلية تتصل بالهُوية وتشكلاتها المختلفة، فعلى مستوى الفلوكلور والرقص الشعبي تحضر (الخطوة ) ويحضر( المجرور )(والسامري) من خلال لوحات استعراضية مميزة إذ حضرت مثلًا (الخطوة) بوصفها بنية أدائية شعبية، وحضرت (البراميل الخضراء) بوصفها بنية إيقاعيتها، ومن خلال تفاعلهما ظهرت لوحة فنية مدهشة تمس عمق الهُوية السعودية في صراعاتها مع الآخر لتعيد إنتاجها بشكل جديد يجسد صورتها الحقيقية التي طالما ارتبطت بتصورات الآخر الخاطئة، وكل ذلك في إطار الفن وهو في نظري أعلى درجات السلوك الحضاري، كما عكست تلك الفنون بنية التنوع الثقافي للهُوية السعودية ساهمت في إعادة موضعتها في المكان المناسب لها على الخارطة الفنية العالمية.
وعلى مستوى الأغنية الشعبية حضرت أغان مميزة ارتبطت بالذاكرة الاجتماعية السعودية استطاعت أن تقدم لوحات فنية ملفتة امتزج فيها الإيقاع الشعبي مع المفردة البدوية في تفاعل مستمر عكس تاريخها الفني الطويل، وقد بلغ هذا الحضور مداه عندما حضرت أغنية ( عديت في مرقبٍ ) بإيقاعها السامري لتتفاعل مع إيقاع الآخر المختلف كليًا ( أغنية الفنانة العالمية أديل) في حوارية ملفتة امتزج فيها إيقاع (الدّف) مع (البيانو)،وتقاطعت رقصات ( السامري) مع أضواء المسرح اللندني لتعلن لحظة استثنائية هي لحظة التجلي الكلي للهُوية بكل حمولاتها الزمانية والمكانية .
...( أخيرًا) لقد استطاعت الأركسترا السعودية وعبر خطاب متفرد من تسريد الهُوية الفنية السعودية، وتمكنت من خلال ممارسات مميزة من استعادة تاريخها الطويل لتعيد إنتاجه وفق موقعه المستحق على صفحة الثقافة العالمية.
** **
سعيد علي الشهري - باحث في الأدب والنقد