في قول الله جل جلاله: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) تذكير عظيم بأهمية وضرورة التنوع بكافة أشكاله، العرقي والتاريخي والثقافي وأيضا الفكري، كما أكد سبحانه وتعالى بأن التقوى هي المعيار لمن هم عنده أكرم منزلة وقربا. قاطنو الكرة الأرضية اليوم أشبه بأسرة كبيرة متشعبة زمانيا ومكانيا في مختلف أصقاع الأرض، ومظاهر التنوع والتعدد في هذه الأسرة في ازدياد ونمو وتضخم مع مرور الوقت، وهو ما يثبته الكم الهائل من الكتب والمقالات والأوراق البحثية التي ناقشت هذه الحقيقة. الدول باختلاف بقعتها الجغرافية وعناصرها الطبيعية وكثافتها السكانية وخصائص ساكنيها، تتساوى باحتياجها لمبادئ وقوانين تحكم طبيعة العلاقات القائمة بين أفرادها، وتلك التي بينهم وبين أفراد المجتمعات المغايرة. هذه القوانين رغم صرامة التعبير ما هي إلا نتيجة للفطرة السليمة التي تقتضي الاستناد على تعاليم الإنسانية والإخاء والإيثار والتراحم، حيث إنه ليس بإمكان أي مجتمع بصرف النظر عن قوته وصلابته على أصعدة عديدة بأن يرتقي بغياب التماسك والتلاحم بين أفراده على اختلاف خلفياتهم العرقية والثقافية والمعرفية. المجتمعات تجد في وجود تمايز بين أفرادها مصدرا للتنمية والارتقاء سواء كان ذلك اقتصاديا أو حضاريا أو تاريخيا على المدى البعيد. على سبيل المثال، من المتعارف عليه أن لأفراد أي مجتمع سوي الحق في معرفة واجباتهم وحقوقهم، وحق المجتمع عليهم بأن يتمسكوا بالقيام بتلك الواجبات التي تعود على المجتمع أجمع بالفائدة كحرصهم وتمسكهم في الحصول على تلك الحقوق التي تعود عليهم في الأغلب بمنافع شخصية. من تلك الواجبات المجتمعية التعاون بين الأفراد وإيجاد لغة حوار أساسها الاحترام يتم تبنيها كأساليب معيشية متنامية تجاه الغير، فمن حق المجتمع أن يحظى بأفراد يشكلون يدا واحدة تأخذ به ليغدو أكثر صلابة بازدياد عدد هذه العلاقات السليمة التي تجعل منه مجتمعا منسجما ومزدهرا وبتناقص تلك العلاقات النابعة من تعصب وانحياز لا يورثان سوى الأذى. التباين بين أفراد المجتمع ابتداء بأمور أكثر بساطة كتنوع الملابس التراثية واللهجات إلى أمور أكثر جدية مثل تباين الأعراق والأنساب لم يكن يوما يهدف إلى إحداث أية نزاعات، بل على العكس، هو قدر وفير بفرص تبادل العلم والثقافة والنمو الإبداعي في أكثر من مجال، وكفى باختيار الله تأكيدا على هذا المقصد، فالله سبحانهوتعالى له كامل ومطلق القدرة بأن يخلقنا متشابهين قلبا وقالبا، لكنه أوجد الاختلاف والتباين فينا وبيننا لحكمة لعلنا ندرك بعض مقاصدها ولربما ما زلنا نجهل الكثير عنها. هذه المبادئ التي تحث على التكاتف والتآخي بين أفراد المجتمع ليست ذات أصول دينية فقط، بل هي مبادئ حفزت عليها الكثير من القوانين والنصوص الدولية، منها ما نصت عليه المادة 1 في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المنشورة من قبل الأمم المتحدة بأنه: «يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء». كما أصدرت الأمم المتحدة أيضا إعلانا رسميا في 20 تشرين الثاني من العام 1963 م يحث على ضرورة القضاء على مختلف أشكال التمييز العنصري بمظاهره المختلفة على نطاق عالمي، حيث إن تواجد مثل هذه الصفات غير المرغوبة ما هو إلا معكر للسلم والأمن الضروري وجودهما بين الشعوب والأمم. لذا، لكل منا الحق بأن يعيش بهويته الإنسانية والوطنية والعرقية بطريقة مكتملة تامة ومن دون أي تهميش أو طمس لأي من عناصرها، فحقيقتك وتمسكك بهويتك وإحسانك لمجتمعك أسمى وأغلى مما آل له الأمر من متاجرة بمثل هذه الأمور في بعض بقاع الأرض. صحيح بأننا لم نختر أقدارنا، لكن لنا مطلق الحرية باختيار أساليب تصرفنا بها وباختيار العوامل التي سنبني عليها أسس تعاملاتنا مع غيرنا من أفراد المجتمعات والشعوب المتفاوتة شكلا ومضمونا.
على صعيد شخصي، من أعز النعم التي أنعم الله يها علي هو ارتباط حياتي ارتباطا وثيقا بمحاور التنوع العرقي والثقافي. أنا ذات أصول بريطانية، وحفيدة لرجل إنجليزي نبيل هو الحاج عبدالله فلبي، أو هاري فلبي قبل إسلامه، الذي ولد عام 1885 م. هذا الرجل أكرمه الله بشخصية فريدة قادته لأن يجوب الأرض ويتقن اللغات المتعددة ويقوم برحلات منقطعة المثيل في شبه الجزيرة العربية، تاركا إرثا تاريخيا وسياسيا وثقافيا رائعا. آلت به مسيرة حياته بعد فضل من الله تعالى بأن يعلن إسلامه في عام 1930 م، وينشئ أسرة تدعو له بفردوس الرحمن ما بقي الزمان. أرى عبدالله فلبي إنسانا أحسن تقدير المعطيات والمميزات التي وجدت في حياته بعبقرية، حيث إن ترحاله جعله على مقربة من الاختلاف الثقافي والحضاري والعرقي بين الناس ووثق تلك الأمور بطرق عدة منها التصوير والتدوين، وهو الأمر الذي صقل فيه عديدا من السمات التي أورثها لأفراد أسرته رغم غيابه. الإنجليزي هاري سانت جون بريدجر فلبي أغرم بشبه الجزيرة العربية قلبا وارتدى لباسها التراثي قالبا، وكما أصبح أبا لأبناء أطلق عليهم الأسامي الأعجمية مثل كيم وديانا وهيلينيا وباتريشيا، أصبح أبا لأبناء أطلق عليهم الأسامي العربية مثل خالد وفارس وفهد وسلطان. دفن صديقي وجدي الإنجليزي الذي أعجب بالأراضي العربية في الأراضي اللبنانية وتحديدا في مدافن الباشورة الإسلامية في العاصمة بيروت عام 1960 م. إدراكي لدلالات ومعاني قدري هذا جعل مني إنسانة محبة لهذا الاختلاف المتأصل والمتجذر فيني، الذي ألهمني خير إلهام في جوانب حياتي كافة، وسأبقى أسعى لتسخيره لما يسمو بي وينفع المجتمع الصغير من أمامي والعالم الكبير من حولي.
** **
د. سارا فارس عبدالله فلبي - المملكة العربية السعودية _ الرياض
@DrSaraPhilby