أهداني د. عبدالعزيز النخيلان كتابه المعنون بـ»حكايات القديم: في غياهب المستشفى هناك حكايات» صدر عام 1439هـ عن مركز الأدب العربي للنشر والتوزيع. أهداه لي مرتين. كان أول إهداء خلال معرض الرياض الدولي للكتاب عام 1440هـ لكنه اختفى بين دهاليز كتبي، أما الإهداء الثاني، فقد كان أكثر دفئاً، إذ جاء حديثاً خلال محاضرة ألقاها الدكتور: عبدالعزيز ضمن فعاليات هيئة الأدب والنشر التابعة لوزارة الثقافة، الشريك الأدبي، يوم السبت 25 يناير 2025م ليعيدني مرة أخرى إلى أجواء هذا العمل. الكتاب الذي يمتد على 144 صفحة، يضم بين دفتيه حكايات نسجها الكاتب من واقع خمس سنوات قضاها مديراً لمستشفى حائل القديم. تلك السنوات، التي كان يُفترض أن يقضيها كطبيب يمارس مهنته الإنسانية على أرض الواقع، لكن تحولت إلى تجربة إدارية ألهمته أن يُبدع هذه الحكايات. لقد أخذنا في رحلة عميقة بين أروقة المستشفى، حيث امتزجت معاناة البشر بحكايات الإنسانية، ودوّن بفكر واعٍ وقلم رشيق تجربة تكشف عما يدور خلف الكواليس في حياة المستشفيات. «حكايات القديم» ليس مجرد سرد لتجربة شخصية؛ بل هو مزيج من التأمل والحنين والمفارقات التي تسكن وجدان كل من مر في تجارب مماثلة. إنه دعوة للتفكر في التفاصيل الصغيرة التي تشكل نبض الحياة اليومية، وتحمل بين طياتها دروساً من الحكمة والمعرفة. وقبل الولوج في عمق الكتاب ، دعونا نعرّج قليلاً على العتبات النصية التي تشكل أولى إشارات النص وبوابة التلقي -العنوان والغلاف- حيث نرى أن الكاتب والطبيب الحاذق، اختار بعناية مفردة «غياهب» لتسمية ممرات وردهات المستشفى، وكأنه يعقد مقارنة ضمنية بين المستشفى والسجن. هذه المفردة التي وردت في القرآن الكريم في سورة يوسف: «غياهب السجن» ليست مجرد تعبير بلاغي، بل هي استدعاء يحمل أبعادا نفسية عميقة. فالمستشفى، بما يحتويه من جدران صامتة وممرات موحشة، قد يتحول في وعي البعض إلى فضاء أشبه بالسجن، حيث يُحتجز الإنسان قسراً بين الأمل والألم، وبين التشافي والانتظار. المؤلف طبيب باطنة، يمارس هذه المهنة النبيلة بإنسانية ، إلا أن حضور محاضرته عن كتابه كشف لي عن تفاصيل تتجاوز الكلمات. الغلاف يكتسي بالسواد الداكن، بينما يرتدي الطبيب حلة بيضاء ناصعة، كأنهما ثنائية تتناوب على المشهد. هذا التضاد البصري، الذي ربما يبدو عابراً للبعض، يحمل في طياته دلالات عميقة أراد الدكتور والطبيب النخيلان أنيصوغ بها جمالية استثنائية. كأنما أراد أن يجعل من التناقض الظاهر مرآة لجدلية الحياة ذاتها، حيث النور والظلام يتعانقان ليكملا اللوحة. وكما أن الحياة في جوهرها ليست إلا ثنائية كبرى تتجلى في كل تفاصيل الوجود، حيث تتوازن الأضداد لتصنع المعنى. الجنة تقابلها النار، والشمس يعانقها القمر، والليل يجاوره النهار، والخير يواجه الشر، والبياض يتماهى مع السواد، والجمال ينكشف أمام القبح. إنها جدلية أزلية، يحكمها التناقض الذي لا يلغي أحد أطرافه الآخر، بل يمنحه عمقاً وسحراً. وكأنما أراد النخيلان، بغلافه الأسود وحلته البيضاء أن يعيد صياغة هذه الثنائية الكبرى، ليذكرنا بأن الحياة ليست إلا لوحة متقنة التفاصيل، تحتاج إلى الضوء والظل معاً لتكتمل. في هذا الكتاب، ينسج المؤلف سبع عشرة حكاية بمهارة أدبية، يقدمها بأسلوب سلس يخاطب القراء على اختلاف ثقافاتهم. يجمع بين التشويق والتأمل العميق في الأحداث، كما يظهر في الحكاية المعنونة بـ»يا بني اركب معنا» (ص: 79)، حيث يسرد موقفاً مع أحد رؤساء الأقسام الذين انتقل حديثاً إلى المستشفى. في الحوار الذي دار بينهما، تناول رئيس القسم المشكلة وتشخيصها، إلا أن النخيلان قوي الملاحظة، رصد استخدام رئيس هذا القسم استخدام تعبيرات مثل «مستشفاكم» و «مرضاكم»، مما يكشف عن إحساس دفين بانفصاله عن روح الانتماء للمنشأة، وكأن المسؤولية لم تجد طريقها إلى قلبه بعد. وفي حديث النخيلان عن كتابه ضمن المحاضرة سؤال عن أكثر المواقف التي أثرت فيه، سواء دوّنها بين صفحات الكتاب أم لم يفعل. أجاب بصوت يحمل صدق التجربة: «هناك موقف سيظل محفوراً في ذاكرتي، لامرأة مسنة أحضروها إلى القسم وهي تحتضر. كانت ابنتها، التي لم يتجاوز عمرها الخمسين، ملازمة لها بلا انقطاع. كانت صامدة وقوية، تلقن أمها الشهادة بكل هدوء ورباطة جأش، كانت تجسد معنى الصلابة في أسمى صورها، وكأنها كانت تستمد قوتها من حبها العميق وواجبها تجاه والدتها. وفي المقابل، كان إخوتها يتهاوون في الممر كأوراق خريفية تتقاذفها رياح الحزن، منهم من استبد به البكاء، ومنهم من جمده الألم في مكانه. لقد قمنا بكل ما نستطيع من إسعافات وإنعاش قلبي، لكنها فارقت الحياة . هذا الموقف لن أنساه ما حييت. في هذا النمط الأدبي والإنساني، يمزج المؤلف بين المواقف الواقعية والعبر العميقة، ليقدم تجربة قراءة مشوقة في كتابه حكايات القديم.
** **
- براك البلوي