من قرية محلية عند منحنى النيل في شمال السودان، ومن شخوص سكنوا تلك القرية انطلقت رواية «عرس الزين» للكاتب الروائي الطيب صالح.
تحولت الرواية لفيلم سينمائي من إخراج المخرج الكويتي خالد هاشم، وبطولة الممثل السوداني علي مهدي.
عتبة العنوان - عرس الزين- مكونة من طرفين: حدث واسم، الحدث هو أهم حدث في الرواية، وهو الحدث المسيطرعليها منذ المشهد الأول إلى آخر سطر، وهو العرس، والشخصية هي شخصية الرواية الرئيسة وبطلها: «الزين».
الزين هو الشخصية المحورية في هذه الرواية، نسجت حوله الأساطير؛ فقد قيل إنه حين مولده انفجر ضاحكاً غير الأطفال الذين يولدون باكين أو صارخين، روحه قلقة، منظره دميم، له علاقات مع الشواذ والمنبوذين: موسى الأعرج وعشمانة الطرشاء، يعطف عليهم ويخدمهم، ويحمل عنهم، ويُحضر لهم الأكل.
ولكن أبرز صلاته التي كان يقيم لها الجميع وزنًا هي علاقته مع الحنين، الذي يروى أنه من أولياء الله الصالحين، كان يقيم في القرية ستة أشهر ثم يحمل إبريقه ومسبحته ومصلاته، ويغيب ستة أشهر، لا يعلمون أين يذهب؟ ولا من يطعمه؟ كان من المقربين جداً للزين، لا يطعم في أي بيت من بيوت القرية إلا بيت الزين.
له قدرة بالغة في التأثير على الزين، ومن ذلك حادثة ضرب الزين لسيف الدين؛ إذ عجز ثمانية رجال بأيديهم وأرجلهم وأجسادهم أن يخلّصوا سيف الدين من قبضة الزين، ونجح الحنين بكلمة واحدة من فعل ذلك: «الزين المبروك الله يرضى عليك»
فهدأ الزين، وأفلت قبضته من على سيف الدين الذي أقسم الرجال أنه كان على شفا الموت ص 64، 65
ما كان الزين يستجيب لأحد، لكن طاقة الحنين الروحانية تفعل فعلها في تهدئته، فالحنين كان يظهر في اللحظة المناسبة.
قال الحنين للحاضرين: «ربنا يبارك فيكم جميعاً» فانقلب حال هؤلاء الرجال جميعهم، ترك سيف الدين المجون وطلب العفو من والدته وأهله، وردّ المال إلى ذويه، وأصبح متديناً محافظاً على الصلوات، بل أصبح مؤذن المسجد، بل من فريق الإمام، أما محجوب ورفاقه فقد نجحت زراعتهم، وأثمرت حقولهم، كما لم يحدث من قبل، وتعدى النفع لجميع أهل القرية فقد جاءت الحكومة بدون سابق ترتيب فأنشأت مستشفى ومدرسة ومزارع، وجاء الجيش فأقام معسكرات قرب القرية، فأصبح سوقاً لمنتجات أهل القرية... إنه - حقاً- عام الحنين.
الزين المبروك باكر يعرس أحسن بت في القرية..
قالها الرجل الصالح الحنين مبشّرًا الزين، وقد كان، فمن أحسن من نعمة؟!
هيّأ الطيب صالح القارئ لتلقي خبر زواج نعمة من الزين، فكانت هناك عبارات إيحائية تحمل دلالات منبئة بوقوع ذلك الحدث العظيم:
(كل ذلك وفي الحي فتاة واحدة، لا يتحدث معها الزين، ولا يعبث معها، فتاة تراقبه من بُعد بعيون حلوة غاضبة، كلما رآها مقبلة يصمت، ويترك عبثه ومزاحه) ص 32
يحمل الزين في جسمه النحيل طاقة عجيبة (تدفقت في جسم الزين النحيل طاقة مريعة جبارة لا طاقة لأهل البلد بها، جميعهم يعرفون تلك القوة الرهيبة ويهابونها...) ص64
(وفار المكان وكأنه قدر تغلي، لقد نفث فيه الزين طاقة جديدة) ص 128
فهو محب للحياة، رسول للحب، (تلتقط أذنه بحساسية بالغة أصوات الزغاريد) ص59
أما «نعمة» فهي سيدة فتيات القرية ذات جمال وحسب ونسب، لها استقلالها ورأيها، لا تتأثر بأحد في شؤونها، ولا حتى والديها وإخوتها، معتدة بذاتها، يهابها الزين الذي لا يهاب أحدا، فحينما تنظر إليه يكف عن مزاحه ويسكن، خطبها كثيرون للزواج لكنها رفضت:
(كانت تحلم بتضحية عظيمة لا تدري نوعها) ص52
(تضم صدرها على أمر تخفيه عنهم) ص 53
وحينما عاندت والدها ورفضت الزواج من شخص ملائم جداً همّ بصفعها، لكن:
(شيء ما في محيا تلك الفتاة قتل الغضب في صدره، لعله تعبير عينيها، لعله التصميم الرزين على وجهها) ص54
يفيض قلبها بـ: (حب فياض ستسبغه يوماً ما على رجل ما) ص 55
المشهد المحوري في الرواية هو مشهد العرس، فقد كان لوحة فسيفسائية جمعت كل المتناقضات فيه؛ إذ كان احتفالاً بالحياة، وتقبلاً لها بكل متناقضاتها، ودعوة صريحة للتعايش، ورسالة واضحة للحب:
هنا بيت يتلو فيه الشيوخ القرآن الكريم، وفي بيت مجاور نساء يرقصن، ورجال يرقصون، وفي بيت آخر شباب يشربون الخمر، وهناك رجال ينشدون في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ...
أما مجتمع القرية فقد كان مقسماً لمجموعات، أو قل كُتلاً بشرية:
الإمام: كانوا يرونه مؤسسة، وليس شخصاً واحداً ص 99 يدعمه كبار السن من أمثال حاج إبراهيم والد نعمة.
وهناك جماعة محجوب، وهم الطاهر الرواسي وأحمد إسماعيل وعبدالصمد وحمد ودالريس وسعيد هم أصحاب النفوذ الفعلي في البلد، كانوا مسؤولين عن كل صغيرة وكبيرة في القرية، يقفون في الأفراح والأتراح، ويناقشون مندوبي الحكومة ، ويعالجون المشكلات الأسرية، ويساعدون المحتاج ... وكان الزين أكبر مسؤولياتهم؛ يحمونه من أن يضر نفسه أو يضر الآخرين ...
أما الزين فقد كان فريقا وحده، كان يكره الإمام، ويحب الحنين وهنا يبدو كأنه تناقض ظاهر، لكنه دليل على أن الزين يفضّل سماحة الدين لا تشدده.
ظهر وفاء الزين في المشهد الأخير؛ إذ فقده الناس أثناء العرس ووجدوه في المقبرة يبكي على قبر الحنين الولي الصالح حبيب الزين الذي تنبأ له بأنه: « باكر تعرس أحسن بت في البلد» فكأنه يحس تجاهه بدَيْن شعوري- لأنه صاحب الفضل في أن يظفر بسيدة فتيات القرية- يريد أن يرده إليه.
من أبرز ما يميز هذه الرواية الصراع الناعم في مظهره، الحاد في جوهره- ليس صراعاً بين العقل والعاطفة، أو بين الشرق والغرب، أو بين العرب وأوربا - كصراع «موسم الهجرة إلى الشمال»، لكنه صراع من نوع آخر، صراع بين المتدينين المتزمتين والمتدينين الروحانيين، صراع بين فريق إمام المسجد وفريق محجوب.
صراع بين الحنين والزين من ناحية وبين الإمام من ناحية صراع بين نعمة المهذبة المحتشمة وبين غواني الواحة صراع بين سيف الدين المنحرف سلوكياً وبين المنضبطين سلوكياً..
كل تلك الصراعات قادها الكاتب الكبير الطيب صالح بحرفية عالية ومهنية متفردة؛ بحيث يجعلك -وأنت القارئ- تصطف مع أحد الفريقين المتصارعين دون أن تدري، ودون أن يفرض عليك ذلك؛
مما يؤهل الرواية لأن تُدرس عبر مربع جريماس السيميائي الذي يهتم بالعلاقة بين الثنائيات والمتضادات.
السرد -في عرس الزين- جاء عبر السارد العليم، وهو ضمير الغائب، وبرع في ذلك الطيب صالح كما برع في كل أعماله، وذلك لقدرته الفائقة على الإمساك بالحدث والوصف، فلو سقت مثالا على تلك البراعة فليكن بداية الرواية التي بدأت بثلاثة مشاهد، كلها اتحدت في مضمونها واختلفت في شخصياتها، كلها تتحدث عن دهشتهم بخبر زواج الزين من نعمة بت الحاج إبراهيم، المشهد الأول مشهد حليمة بائعة اللبن وآمنة، والثاني الطريفي التلميذ مع الناظر، والثالث عبدالصمد مع علي.
بدأت هذه المشاهد الثلاثة في الصفحة الأولى من الرواية، ثم تركها الطيب صالح القدير، واستطرد في أحداث أخرى، ثم عاد- بقدرة فائقة- وتحدث عنها، فاستكمل قصة حليمة وآمنة بعد خمس وثلاثين صفحة، وترك قصة الطريفي والناظر وعاد لها بعد ثلاث وثمانين صفحة.
فالحدث - عرس الزين - كان مستغرباً، فالعرس لا يليق بالزين، والزين لا يناسبه العرس، والزين أقل من أن يتزوج نعمة، أو هكذا يرى أهل البلد، فهو - في نظرهم - أبله مهزار غير جاد، والعروس نعمة سيدة فتيات أهل البلد جمالا وحسبا ونسبا.
لذا استغلوا غرابة الحدث في تحقيق أهداف خاصة، فغشّت حليمة اللبن لآمنة، ونجا الطريفي من عقاب الناظر؛ لأنه تأخر في الحضور للمدرسة، ونجا شيخ علي من تسديد دينه لحاج عبدالصمد.
الحوار كان منطقياً؛ إذ يدور باللهجة المحلية «جدا» وهي لهجة أهل القرية، وليست لهجة أهل المدينة، لكن الطيب صالح كان يُنطق بعض الشخصيات بكلمات فصيحة، وهذا أيضاً منطقي، ومنهم الناظر والإمام بحكم أنهما متعلمان ومثقفان.
الرواية تصلح لأن تكون مرجعاً اجتماعياً في طقوس وعادات وتقاليد أهل القرى في السودان في ذلك الوقت، فهي وثقت لأفراحهم وأتراحهم وأعمالهم وخلافاتهم وتكتلاتهم وعباداتهم.
فلو تناولت جانباً محدداً من باب التمثيل والاستشهاد للكل، وهو مشهد العرس:
فقد كان مشهد العرس لوحة فسيفسائية انتظمت القرية، جمع فيها الكاتب جميع المتناقضات التي انصهرت؛ لتشكل لنا تلك اللوحة البهية، اجتمع كل أهل القرية والمناطق المجاورة في ذلك العرس، حتى قالوا حينما فقدوا الزين يوم عرسه: أين يذهب؟ والبلد كله هنا؟
الزين شخصية تتمتع بطاقة إيجابية تنثرها في كل الأرجاء وتبثها فيمن حولها، وله جاذبية و» كاريزما» قوية؛ مما جعل أهالي القرية يستغلون قدراته أسوأ استغلال، وذلك في الترويج لبناتهم للزواج، فما كان يشهّر ببنت بصيحته المعهودة: (يا ناس الحلة أنا مكتول في حوش فلان) وإلا تتزوج البنت في أسرع وقت؛ لأنه كان يلفت الانتباه لها، والحقيقي أنه كان يمتلك ذائقة عالية، فلا يتغزل إلا بأجمل بنات القرية « عزة بت العمدة - نعمة بت حاج إبراهيم -علوية بت محجوب... « فكانت الأمهات يستغللنه بوقاً للترويج لبناتهن، فيدعونه لطعام شهي، ويرينه بناتهن؛ لينهض من هنا مشبّبًا بها، فتضمن زوجاً في شهر أو شهرين.
إذ أصبح الزين رسول الحب في مجتمع محافظ، فكان الحب يصيب قلبه ثم ما يلبث أن ينتقل لقلب آخر.
لكن الزين لم يكن يتأثر بقصص الحب هذه؛ إذ يخرج منها كما دخل، ثم يبحث عن أخرى.
أما لغة الرواية، فالطيب صالح كاتب يرسم بالكلمات؛ إذ يتميز بجمال لغته، وبلاغة عباراته، وروعة صوره، وعمق خياله، ومن ذلك أذكر بعض الصور ذات العمق، والجمال اللغوي الذي يلامس حد الشعرية بل يفوقها أحياناً:
(تفتح جمالها فجأة كما تنتعش النخلة الصبية حينما يأتيها الماء بعد الظمأ) ص 25
(يجري هاهنا وهاهنا كأنه كلبة فقدت جراءها) ص 31
(شعرتْ بلسانها كأنه قطعة من الخشب في فمها) ص42
(ينتفخ صدر النيل كما يمتلئ صدر الرجل بالغيظ) ص47
(باغتهم الزين بسكونه المفاجئ فكأنه حائط يدفعونه أمامهم انهد فجأة) ص65
(ثم انزلق الضوء عنها كما ينزلق الرداء الحريري الأبيض عن منكب الرجل) ص68
(والريح تلعب بالقمح تثني صفوفه كأنه حوريات رشيقة تجفف شعرها في الهواء) ص 83
(ترقبها عيونهم فتنفلت منهم كالسمكة في الماء) ص 123
وغيرها كثير، ولو تتبعنا تلك الصور لوجدناها كلها -شأن الرواية- تمتاح من الحقول الدلالية من بيئة القرية، والتصاقها بالمحلية:
النخلة - كلبة -الريح -القمح -السمكة ...
بدأت الرواية بخبر العرس، وانتهت بالعرس نفسه، فكأنّ أحداث الرواية كلها بين خبر ووقوعه، زانها وصف بديع، وحوار متفرد، وصور عميقة، واستطراد حصيف، من كاتب يعرف تماماً كيف يمسك بخيوط أحداثه، فلا تستغرقه الأحداث، ولا ينسيه السرد، ولا يلهيه الحوار، ولا يشغله الوصف، يدرك تماما متى يكتب عن هذا المشهد، ومتى ينتقل لآخر ثم يعود حينما يقتضي السياق أن يعود.
إنها وقفات عجلى مع «عرس الزين» رواية عظيمة حق لها أن تجد مكانها بين أعظم الروايات العالمية، انطلقت من البيئة المحلية، لكنها حملت كل تقنيات الروايات المعاصرة، رغم أن عمرها يربو عن الخمسين عاماً، صبغتْها الواقعية السحرية التي نسبها بعض النقاد لكُتَّاب أمريكا اللاتينية وخاصة ماركيز، فللواقعية السحرية جذور راسخة في تراثنا بدءًا من «ألف ليلة وليلة»، أما في العصر الحديث فالطيب صالح من روادها ومنشئيها، فلو اصطحبنا معنا أركان الواقعية السحرية - أو قل ارتباطاتها- وهي العجائبي والأسطوري والسيريالي فكلها متوافرة بقوة في هذه الرواية العظيمة.
** **
- طارق يسن الطاهر