الثقافية - علي القحطاني:
في عالم مليء بالتغيرات السريعة والأفكار المتجددة، يمثل كتاب «الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي» عملًا غير تقليدي يعيد قراءة الموروث الثقافي العربي من منظور مختلف تمامًا. الكتاب لا يُعنى بمجرد استعراض وصفات الطهي، بل يخوض في رحلة غنية إلى أعماق الثقافة العربية، مسلطًا الضوء على كيف أن الطعام لم يكن مجرد وسيلة لإشباع الجوع، بل عنصرًا مركزيًا في تشكيل الهوية، والتعبير عن قضايا اجتماعية ودينية وجندرية، وحتى كأداة للصراع والتفاعل الحضاري.
يأخذنا الدكتور سعيد العوادي، أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بكلية اللغة العربية في جامعة القاضي عياض بمراكش صاحب هذا الكتاب في لقاء مع «الثقافية» في رحلة عبر جغرافية نصوص عربية متنوعة، تشمل القرآن الكريم، والحديث الشريف، وكتب التفاسير، والشعر، والأمثال، وحتى كتب الأحلام والمناظرات.
يتناول العوادي الطعام كوسيط رمزيّ غنيّ بالدلالات، من خلال تحليله المُبدع للنصوص التراثية، ليكشف كيف أن الثقافة العربية اعتبرت الطعام والكلام وجهين لعملة واحدة، ويتجسد ذلك في استعارات لغوية عميقة مثل «الكلام طعام»، وهو تصور سبق اللسانيات المعرفية الحديثة.
ولأن الإبداع لا يقف عند حدود التراث، انتقل العوادي في لقائه مع «الثقافية «مع كتابه الثاني، «مطبخ الرواية»، لاستكشاف أثر الطعام في السرد الروائي العربي الحديث.
من خلال دراسة تسع روايات عربية متنوعة، يوضح الكتاب كيف أصبح الطعام أداة لإبراز الهوية، وإيصال الرسائل، بل وحتى سلاحًا في بعض السياقات السردية.
بين بلاغة الحياة اليومية، والتجديد في دراسة موضوعات تبدو «هامشية» مثل الطعام، يقود سعيد العوادي مشروعًا فكريًا يهدف إلى توسيع آفاق البلاغة الثقافية، وجعلها أكثر ارتباطًا بالحياة. مشروع لقي احتفاء واسعًا في الأوساط الأدبية والفكرية، وفتح أبوابًا جديدة لفهم أعمق للتراث والحاضر العربي.
ثقافة المطبخ العربي
في كتابك، أشرت إلى أن «الطعام والكلام» يتجاوز كونه مجرد كتاب لوصفات الطهي، ليصبح رحلة غنية في أعماق تاريخ وثقافة المطبخ العربي. هل يمكنك اطلاعنا أكثر على ملامح هذه الرحلة وما الذي يجعلها فريدة؟
بداية، أتقدّم بوافر الشكر والتقدير لصحيفة الجزيرة الرائدة على اقتراحها لهذا الحوار الدائر حول كتابيّ «الطعام والكلام: حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي» و»مطبخ الرواية: الطعام الروائي من المشهدية إلى التضفير». نعم، ليس «الطعام والكلام» كتابا في الطبخ بوصفه فنا منحصرا في إعداد الأطباق ورصد الوصفات، وإن تناولتُ فيه مبحثا وسمته بـ «كتب الطبيخ: ذاكرة الوصفات»، مستهدفا دراسة نماذج متنوعة من هذه الوصفات - التي نقلتها لنا كتب الطبيخ التراثية - وفق منظور نصي بلاغي يكشف عن التشكيل التأليفي واللغوي لهذا النمط من الكتابة التوجيهية عند العرب.
إن الكتاب يتجاوز الحدود التقنية للطهي، ليتناول مكوِّن الطعام ضمن رحلة غنية - كما تفضلتم – تتنقّل عبر جغرافيا الثقافة العربية التراثية الواسعة، متعقِّبة الحضور الطعامي داخل خطابات متنوعة هي: القرآن الكريم والحديث الشريف والتفاسير وعلوم اللغة والتاريخ والطبيخ والأمثال والحِكم والأحلام والأشعار والأ خبار والوصايا والخطب والمناظرات والرحلات والمقامات.
وقد تجلّت فرادة هذه الرحلة في تشعّباتها النصية والأجناسية، وخلوصها إلى أن الطعام عنصر حيوي في الثقافة العربية الإسلامية؛ إذ لم يكن شأنا زائدا أو هامشيا كما يُتصوّر، وإنما كان من صميم مرتكزاتنا المادية والثقافية. ففضلا عن أنه يلبّي حاجات الأجساد، شكّل وسيطا رمزيا تتفاعل فيه الأسئلة الحضارية الكبرى من قبيل: أسئلة الوجود، وأسئلة الدين، وأسئلة الهوية، وأسئلة الغيرية، وأسئلة الجندر، وأسئلة الصراع، وأسئلة المثاقفة.
ويكفي أن نتأمل جانبا من تصنيفات الطعام في موروثنا الثقافي: التصنيف الديني (الطعام الحلال / الطعام الحرام- طعام أهل الدنيا / طعام أهل الآخرة)، والتصنيف الاجتماعي (طعام الطبقة العليا / طعام الطبقة الدنيا- طعام الكريم / طعام البخيل)، والتصنيف الذوقي (طعام جيّد / طعام رديء)، وتصنيف مفسِّري الأحلام (طعام بنار/ طعام بلا نار)، وتصنيف العميان (طعام بيد / طعام بيدين)، لندرك محورية هذا المكوّن وقدرته على التغلغل العمودي والأفقي في النظام الثقافي العربي.
أبو يعقوب السكاكي بين الحيوية والجمود
في كتابكم «الطعام والكلام»، تستشهدون بنص للسكاكي حول «قِرى الأشباح» و»قِرى الأرواح»، وتعتبرونه منطلقًا للبحث في العلاقة بين الطعام والكلام. كيف أوضح هذا النص العلاقة بين هذين المفهومين؟ وكيف استخدمتموه كنقطة انطلاق لبحثكم في البلاغة الثقافية للطعام؟
لعل من مظاهر قوة تراثنا العربي أن بعض أقواله المتخفّية وشذراته المهملة تنطوي على قضايا وإشكالات ثرية، لا ينتبه إليها إلا القارئ الصبور اليقظ، فيحوِّلها إلى آفاق بحثية واعدة. وكثيرا ما أشبِّه تلك النصوص ببركة ماء راكدة في مكان مفعم بالطمأنينة والهدوء، فما إن يرمي فيها الواقف على جنباتها حجرا، حتى يبدأ الماء برسم دوائر متوثّبة مذهلة تتّسع شيئا فشيئا. وقد عثرت في كتاب «مفتاح العلوم» لأبي يعقوب السكاكي على واحد من تلك النصوص: «أفتراهم يحسنون قِرى الأشباح، فيخالفون فيه بين لون ولون، ولا يحسنون قِرى الأرواح، فلا يخالفون فيه بين أسلوب وأسلوب، وإيراد وإيراد! فإن الكلام المفيد عند الإنسان - لكن بالمعنى لا بالصورة - أشهى غذاء لروحه وأطيب قِرى لها». تخفّى هذا النص بين صفحات بلاغية صارمة تُعنى بأسلوب الالتفات، ولعل السكاكي المتّهم عند كثير من دارسي البلاغة بالجمود والجفاف قد منحنا - من خلال هذا النص - لفتة أو التفاتا آخر أكثر حيوية وخصبا، حين نبّهنا إلى أن القِرى العربي نوعان: قِرى الأشباح المتمثِّل في الطعام، وقِرى الأرواح المتجلّي في الكلام، مبرزا أن المخالفة والتنويع هي البؤرة التي تجمعهما. بل إن السكاكي يختم ملاحظته النبيهة بالإشارة إلى استعارة تصورية كبرى تنتظم الذهن العربي - إن لم نقل الإنساني - وهي أن «الكلام طعام». وبذلك، يكون السكاكي قد سبق اللسانيات المعرفية بقرون إلى الارتقاء بالاستعارة من المستوى اللساني إلى المستوى المعرفي التصوري. وتدعم عربيتنا الحديثة استعارة «الكلام طعام» بأمثلة كثيرة نذكر منها: حديث حلو مستملح، وكلام مستساغ، وكتابة غير ناضجة، والتهمت الرواية، وقارئ نهم.
لقد كان نص السكاكي سببا مباشرا في ميلاد كتاب «الطعام والكلام»، الذي رام توسيع النظر في هذه الثنائية عبر حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي. وكيف لا يتداخل الطعامي بالكلامي.. واللقمة واللفظة تلتقيان في فم الإنسان ضمن علاقة خلافية، تلقم فيها الأولى لتستقر في الداخل وتلفظ فيها الثانية نحو الخارج؟! وهكذا، فإن لهذا التداخل تجليات في تعاملنا مع الطعام والكلام.
وحين نستقرئ مدونتنا التراثية الواسعة، يبدو الطعام أكثر أثرا في الكلام؛ إذ يستلهم عالمُ الكتابة من عالم الطهي مسارا كاملا، يُستفاد منه أن الكتابة محض عملية طبخ تامة ومتكاملة لمواد معرفية منتقاة، يستعمل فيها الكاتب / الطاهي بهارات لغوية ومنهجية بخبرات مخصوصة، بغاية تقديمها إلى قارئ نهم متلهّف باستمرار إلى كل ما لذَّ وطاب. وقادنا التماهي بين حقلي الطعام والكلام إلى بناء الكتاب على شكل مأدبة متنوعة، فعبّرنا عن المقدمة بالمُفَتِّحة، والفصول بالأطباق، والخاتمة بالتحلية، ولائحة المصادر والمراجع بمطبخ الكتاب.
وعلى هذا الأساس، بحثْنا في الكتاب عن المرجعية الطعامية لكثير من المصطلحات البلاغية والنصية، فبدا لنا أن الفصاحة ترجع إلى اللبن الفصيح، والبلاغة إلى التبلّغ بالزاد القليل مما يفسِّر ارتباطها في تراثنا بالإيجاز، والذوق الذي عليه العمدة في بلاغتنا أصله الطعامي لا يحتاج إلى مزيد إيضاح...أما بخصوص المصطلحات النصية البليغة، فنلاحظ أن الأدب مأخوذ من المأدبة، والمُلْحة من المِلْح، والفُكاهة من الفاكهة...كما نجد عبارات أساسية انعطافية في تراثنا التليد تمتاح من مجال الأكل والشرب، نحو عبارة الوليد بن المغيرة في حق القرآ ن الكريم: «إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق»، والتي أكثر علماؤنا من إيرادها في مصنفاتهم، إلى درجة يشعر فيها الدارس أن تلك المصنفات إنما هي حاشية مطوَّلة لشرح ما انبهم في العبارة الذوقية للوليد.
الطعام وإلهام الشعراء
تناقش في كتابك العلاقة بين الطعام والكلام في التراث العربي، وكيف أن الطعام كان دائمًا مصدر إلهام للشعراء والكتاب. ما هي أبرز الأمثلة التي وجدتها على ذلك؟
معلوم أن الشعرية العربية القديمة قد احتفت كثيرا بقيمتي الكرم والشجاعة. وجمع الشاعر أبو القاسم الصَّرَوي بين هاتين القيمتين في نظرته المركَّبة للرمح، فجعل قسمه الحديدي أداة قتال، وقسمه الخشبي أداة كرم، حين قال في بيته اللافت:
أُصَدِّعُ صَدْرَ الرُّمْحِ في صَدْرِ فَارِسٍ
وأوقد ما يَبْقَى من الرُّمْحِ للضَّيْفِ
وعلى الرغم من الأهمية المماثلة لقيمتي الكرم والشجاعة عند العرب، إلا أن بعضهم أعلوا من درجة الأولى على الثانية، فربطوا السيادة بالكرم والإطعام تحديدا، وفي ذلك قال أبو الأعلى: «ما ساد منّا إلا سخي على طعام»، مثلما جعل آخرون «الشرف في السَّرَف».
والأكيد أن مثل هذا التصوّر يدفع إلى العناية بذكر المآكل والمشارب؛ تلك العناية التي يقول عنها ابن قتيبة: «العرب أوصف الناس للطعام، وألطفهم في ذكره». وبذلك، عُرضت موائد الطعام على خطابي الشعر والنثر، فتبارى الشعراء والكتاب في وصفها وصفا تفصيليا يحيط بمكوناتها وشكلها وألوانها وروائحها وأجواء البهجة المرتبطة بها، فضلا عن عرضها في سياقات جادة حينا وهزلية حينا آخر. وهذا ابن الرومي يقدِّم لنا لقطة سينمائية بديعة تصوِّر تحوّل العجين في يد خبّاز حاذق، فيقول:
ما أَنْسَ لا أَنْسَ خبَّازًا مَررتُ به
يَدحو الرُّقاقة وَشْكَ اللَّمحِ بالبصَرِ
ما بينَ رُؤْيَتِها في كَفِّهِ كُرَةً
وبينَ رؤيتها قَوْراءَ كالقمرِ
إلَّا بِمِقدارِ ما تنداحُ دائرةٌ
في صفحةِ الماء يُرْمَى فيه بالحَجَرِ
ونظيره المأموني المتخصص في شعر الطعام الذي ذمّ الملح المخلوط بالأبازير بنفس سوريالي، يقول:
لا تُدني منِّي المِلحَ إن شِبْتَهُ
من الأَبازيرِ بألوانِ
ووجهُه أَبْرَصُ ذو غِشَّةٍ
بينَ تَآليلٍ وخِيلانِ
فإنني أَحسب أنّي متى
أَدنيتُه مِنِّيَ أَعداني
وسار النُّثَّار على النهج نفسه في المقامات وأخبار البخلاء والطفيليين، ومن نماذج ذلك قول أعرابي مفاخر بتمر قبيلته: «تمرنا خُرْس فُطْس، يغيب فيه الضِّرس، كأن نواه ألسن الطير، تضع التمرة في فيك فتجد حلاوتها في كَعْبِك». وتصف لنا المقامة الجاحظية يد أكول بإبداع كاريكاتوري أخّاذ، فتقول: «ومعنا على الطعام رجل تسافر يده على الخِوان، وتُسفر بين الألوان، وتأخذ وجوه الرغفان، وتفقأ عيون الجِفان، وترعى أرض الجيران، وتجول في القصعة كالرُّخِّ في الرُّقعة».
الأبعاد البلاغية للطعام
ذكرتَ أنَّ كتاب «الطعام والكلام» فتح أمامك آفاقًا جديدة للبحث، كيف تطورت فكرة الكتاب من دراسة الخطابات التراثية إلى ملامسة الخطابات الحديثة، وتحديدًا خطاب الرواية؟
من عادتي ألا أسيِّج الفكرة التي أدرسها داخل حيّز زماني أو مكاني واحد، وإنما أسعى إلى التنقّل بها جيئة وذهابا؛ وهذا ما يفسِّر انتقالي من دراسة تيمة الطعام في الخطاب التراثي إلى دراستها في الخطاب الروائي الحديث من خلال كتاب «مطبخ الرواية». لقد حفّزتني رحلة «الطعام والكلام» وما أسفرت عنه من كشوف تمسّ الأبعاد البلاغية والثقافية للطعام، على استئناف الرحلة نحو الرواية التي تعجّ بمطابخ متنوعة وأطباق مختلفة تُعرض في سياق أجناسي فريد تتعقّد فيه أسئلة الإنتاج والتلقي.
الأطعمة في الروايات العربية
يُلاحظ في كتاب «مطبخ الرواية» تنوع الروايات العربية التي اخترتها للدراسة. فما هي هذه الروايات؟ ولماذا وقع اختيارك عليها تحديدًا؟
اشتغل «مطبخ الرواية» على متن سردي امتد في تسع روايات مهمة تنتمي إلى جغرافيات عربية مختلفة، الجامع بينها حضور المكوّن الطعامي، وإن بنسب متفاوتة، منحصرا في مقاطعها الوصفية تارة، وموسّعا في متواليات أحداثها وشخصياتها وحواراتها ورهاناتها تارة أخرى. وبذلك، قسّمنا هذه الروايات إلى صنفين: صنف ضمّ ست روايات حضر فيها الطعام ضمن مشاهد قليلة، ولكنها دالّة وهي: رواية «جيران أبي موسى» للمغربي أحمد التوفيق، ورواية «بين القصرين» للمصري نجيب محفوظ، ورواية «المهزومون» للسوري هاني الراهب، ورواية «بعيدا من الضوضاء، قريبا من السكات» للمغربي محمد برادة، ورواية «الإفطار الأخير» للمصري هشام شعبان، ورواية «الطلياني» للتونسي شكري المبخوت. وصنف انتظمت فيه ثلاث روايات يعدّ الطعام موضوعها المركزي هي: رواية «كحل وحبّهان» للمصري عمر طاهر، ورواية «برتقال مرّ» للبنانية بسمة الخطيب، ورواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» لليبي محمد النعّاس. وسعيا إلى تشييد حوارية نقدية منتِجة ومقارنة، انفتحت على أربع روايات أجنبية سبقت إلى هذا النوع من السرد الطعامي.
علاقة الطعام بالسرد
في ضوء مشروعك البحثي الذي يهدف إلى إعادة كتابة تاريخ الرواية العربية من منظور علاقة الطعام بالسرد، كيف يُساهم هذا المنظور في فهمنا للروايات العربية؟ وهل يُمكن اعتبار الطعام مجرد عنصر جمالي في الرواية، أم أنه يحمل دلالات ثقافية واجتماعية عميقة؟
كل تأريخ هو قراءة خاصة ونسبية في الآن نفسه للواقعة المؤرَّخ لها. وبناء على ذلك، تم التأريخ للرواية العربية من مداخل متباينة، ويضيف كتاب «مطبخ الرواية» مدخلا تأريخيا جديدا يستند إلى مقوّم الطعام. وشجّعنا على هذا الاختيار وجود مسار روائي عربي يسمح بإمكانية تحقيب كمّي ونوعي، رصدنا فيه، كما أشرنا سابقا، مرحلتين من التعامل مع هذه التيمة: مرحلة أولى وظفت فيها الروايات حقل الأكل والشرب توظيفا هامشيا، ومرحلة ثانية اتضحت ملامحها في السنوات الأخيرة، وأمكننا تسميتها بـ«الروايات الطعامية» بحكم نزوعها نحو تسريد الطعام، واختيار فواعل طعامية كالطبّاخ والخبّاز والمتذوِّق.
وخلصت قراءتنا البلاغية الثقافية لهذه الأعمال الروائية إلى بيان الدلالات الفنية والثقافية لتوظيف الطعام في نسيجها الإبداعي. فلو اكتفينا بروايات المرحلة الأولى، سنجد أن الطعام قد تجلى فيها من خلال ثلاثة أنساق فاعلة، وهي: نسق الطعام هوية، حين أسهم في تشكيل المعمار الهوياتي للشخصيات، مرمِّما الهوية الوطنية كما في رواية أحمد التوفيق، أو مشكِّلا لهويات فردية تقابلية كما في رواية نجيب محفوظ. ونسق الطعام رسالة، حيث بدت أطباق الطعام متضمِّنة لرسالة مبطَّنة، فكانت رسالته في رواية هاني الراهب رسالة حبّ من عاشقة إلى معشوقها، وكانت في رواية محمد برادة رسالة مواجهَة للآخر الأجنبي. أما النسق الثالث، فقد حوّل الطعام إلى سلاح، إذ تحوّلت وجبة الإفطار في رواية هشام شعبان إلى سلاح لكسب رهان الانتخابات، فيما تحوّل طبق الكسكسي في رواية شكري المبخوت إلى سلاح انتقام.
الأطعمة والدراسات العبثية
كيف تسعى إلى تطوير مفهوم «بلاغة الحياة اليومية» في مسارك البحثي، وما الذي يجعلها ضرورة للواقع العربي اليوم؟ وكيف تُسهم مقاربتك لتيمات مثل الطعام والتسوّل وأدب الوباء في إرساء دعائم هذا التوجّه البلاغي الجديد؟ وكيف تُبرّر اهتمامك بـ «الطعام» كموضوع بلاغي، في وقت يعتبره البعض موضوعًا هامشيًا لا يستحق الدراسة البلاغية والنقدية الحديثة؟
حصر كثير من الباحثين العرب المقاربة البلاغية في دراسة نصوص بعينها، فكان من نتائج هذا الحصر توقّف هذه المقاربة عن التجديد ما دامت تدور في فلك نصي واحد، ورسوخ اعتقاد خاطئ يرى أن النصوص الأخرى ليست مؤهلة للتناول البلاغي. ولذلك، تتعالى الأصوات بين الفينة والأخرى منتقدة كل توجّه بلاغي يروم الخروج عن هذا النهج، على نحو ما نجد في توجهات بلاغة الرواية وبلاغة المسرح وبلاغة الأيقونات البصرية، بل وبلاغة الحياة اليومية التي اتجهتُ إليها، من خلال إنجاز دراسات تعنى بخطابات الطعام والتسوّل والوباء والرياضة، انطلاقا من قناعة بحثية ترى أهمية انسلاك المقاربة البلاغية في صميم الاهتمامات اليومية العربية، وهو ما يضفي عليها قيمة إجرائية عملية، كما يفتح البحث الجامعي - في المحصِّلة - على قضايا المجتمع وخطاباته الحية المتجددة.. ولعل هذا ما نحتاج إليه اليوم، وبصورة أكثر إلحاحا!
وخطاب الطعام كأي خطاب ينتمي إلى الحياة اليومية، سيتعرّض لا محالة إلى نقد من أصحاب البلاغة التقليدية.. سيحتقرونه لتصنيفهم إياه مسبقا في مجال الهامشي المبتذل، وسينفون عنه الطابع الخِطابي لمخالفته معايير الخطاب عندهم. في حين أن الطعام في وجوده المادي وشكليه البصري واللغوي يشكِّل حيزا مهما في حياتنا.. فكيف يكون هامشيا؟! ثم إنه خطاب يعبّر عن نفسه بأشكال بلاغية متنوعة، ويعبُر أجناسا خِطابية لا حصر لها، فضلا عن اقتداره على تمرير رسائل ذاتية واجتماعية وسياسية وثقافية كثيرة.. فكيف لا يكون خِطابا جديرا بالنظر البلاغي الثقافي؟! ومما يدعم قيمة اختيارنا البحثي، ذلك التلقي الترحيبي العربي الواسع والاستثنائي بصدور الكتابين، والذي يدلّ على مسيس الحاجة إلى انعطاف نحو الموضوعات اليومية غير الاعتيادية؛ إذ عُقدت حول الكتابين أيام دراسية وندوات وطنية ودولية، وحظيا بمتابعة إعلامية مختلفة، وكتبت عنهما مقالات متنوعة في الصحف والمجلات، بل أنجز حولهما وبإيعاز منهما كتاب جماعي محكّم بعنوان «الطعام أفقا للقراءة: أعمال مهداة إلى البلاغي سعيد العوادي» من تنسيق الأستاذين مصطفى رجوان وعادل المجداوي، وصل عدد صفحاته إلى 664 صفحة، وتضمن 25 مقالا كتبها متخصصون في البلاغة والنقد الثقافي والسيميائيات واللسانيات المعرفية والأنثروبولوجيا وا لفلسفة والسرد والسينما والترجمة.
البلاغة الثقافية والانتقادات
واجه «البلاغة الثقافية» التي تُنادي بها بعض الانتقادات، حيث يرى البعض أنها تُخالف «سمت البلاغة العربية». كيف تردّ على هذه الانتقادات؟
إن الذين يواجهون «البلاغة الثقافية» هم أنفسهم الذين يواجهون «خطابات الحياة اليومية»، بمعنى أنهم ينفرون من كل تجديد في المقاربة والموضوع. علما أن انحيازي للبلاغة الثقافية ليس ادعاء أو حذلقة، وإنما له جذور ضاربة في تاريخ بلاغتنا.. وهي البلاغة التي بدأت ثقافية لا تكتفي بإمتاعية النصوص أو إقناعيتها، ولكنها تنظر إلى تلك النصوص في وجودها الحضاري والاجتماعي توافقا وتدافعا. ولنا في مشروع الجاحظ والجرجاني خير مثال، قبل أن يضيق أفق علم البلاغة ويُصبَّ في جداول ثلاث غاصّة بالمصطلحات، ومكتفية بشواهد مجتزأة مكرورة. وعلى هذا الأساس، فالبلاغة الثقافية التي نؤسِّس لها تملك جذرا تراثيا، لكننا نسعى إلى تطويرها ضمن رؤية تدرس الخطاب في تفاعلاته داخل معترك الثقافة.
** **
@ali_s_alq