«البوهيما» منطقة تاريخية في أوروبا الوسطى تحديدًا جمهورية التشيك، هذه المنطقة كان سائدًا عنها في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي أنه لا يسكنها إلا الغجر الأوروبيون، أو ما يسمى البدو الرّحل؛ لذا فالتاريخ الأوروبي لم يرحمهم وينظر للقادمين منها أنهم متمردون ولا يندمجون مع الأعراف والعادات الاجتماعية، ويعيشون بصورة غير منتظمة ويهيمون في الشوارع بلا انضباط ولا التزام.
كان يُنظر إليهم على أنهم مشردون لا مأوى ولا مكان يجمعهم ويحدد هويتهم ويعرّف بشخصياتهم، يتصرفون من غير أي اعتبار للقواعد السلوكية المنضبطة ولا سيما أولئك الغاصّون في عالم الفن، قبل أن يظهر هذا المعنى في أوروبا الغربية فرنسا وألمانيا وتبدأ تتغير النظرة إلى أصحابه ويتسع حجم التعاطي مع الفنون التي قدمت معهم.
البوهيمية عند الفرنسيين تعني الحياة غير المشروطة، هذا المصطلح يطلق على كل شخص له أفكار واهتمامات فنية أو أدبية، محبو القراءة والرسم والاطلاع والرحلات والسفر والغناء والمغامرات هم من هذا الصنف، يتخذون أسلوب حياة مختلفاً تمامًا عن البقية قائماً على البساطة، لهم قدرات مغايرة عن أقرانهم، يعشقون الحياة بتفاصيلها بعيدًا عن التعقيدات، غير أنهم لا يهتمون بالمظهر والملبس ولا بالمال، أي أنهم زاهدون كونهم منشغلين دومًا بفنهم وعاداتهم الغريبة، لهم طقوس غريبة يمارسونها كالرقص واللباس المختلف البسيط، وهذا ما شدّ الانتباه إليهم وجعلهم تحت مجهر الثقافة الأوروبية. هم يعشقون الرومانتيك والموسيقى، كل شيء في نظرهم جميل وقابل للمتعة، لا يضعون حواجز تعرقلهم عن تقدمهم الفكري وانطلاقتهم الذهنية وممارسة حياتهم.
على الرغم من ارتباط هذا المصطلح بفكرة الدونية عند الألمان والفرنسيين؛ لأن أصحابه عادة فقراء وبسطاء إلا أن المد الفكري للبوهيمية بدأ يتحرر من الضغط الأوروبي ويتقدم في صناعة الأدب والفن في أوروبا الوسطى والغربية، التي تُعد بداية النهضة للفنانين التشكيليين في أوروبا الغربية.
لقد انتشرت أفكار البوهيمية بسبب شهرة أعمال أدباء هذا الفكر منذ نشأته الأولى، وفكتور هوجو أحد أولئك الأدباء الذين انتشرت أعمالهم في السينما والمسرح. وأثّر حتى على الفن في إسبانيا حيث أصبح هناك ثقافة إسبانية اكتسبت ثقافة عالمية بألوان غجرية.
أعود للموضوع لأجد أن المتأمل في هذا الفكر الغريب يلحظ الكثير من المحسوسات، فأصحابه يعشقون العلاقات طويلة الأمد، وتنطوي أفكارهم على أنشطة موسيقية أو فنية أو أدبية في هذه الحالة يمكن أن يكون صاحب هذا الفكر مغامرًا وينمو سريعًا؛ لأنه قائم على الميثولوجيا القائم على اجترار الأحداث وتفسيرها ويعتمد على الحكايات القديمة والقصص والأبطال والأساطير، ويؤمن بالقدرات الخارقة والدخول في النمط السردي والتركيز على عمق التفاصيل.
إنه عمق فلسفي كبير يساعد على إيصال الرسائل الاجتماعية والأخلاقية بطرق غير تقليدية، بل إنّ أصحاب هذا الفكر يعتقدون جازمين أن للإنسان قوة حياة وأن عليه استخدامها ليتفرّد ويختلف عن غيره. كما أن الحياة في نظرهم هبة مميزة من المهم أن نستمتع ونعتز بها كلٌّ على طريقته، وهذا ما يميزهم عن حركة الفكر الهيبي التي تتمحور حول الأفكار الراديكالية، فالبوهيميون بسطاء انغمسوا آنذاك في الحياة السهلة البسيطة، يركزون على الأفكار أكثر من تركيزهم على الألبسة؛ وهذا ما جعلهم مميزون أكثر وأخذت أفكارهم وجهًا مختلفًا وأكثر قربًا من الناس وأوسع انتشارًا، بينما الهيبيون يعشقون البروز عن طريق الشعور الطويلة والألوان الزاهية والقلائد المطرزة لأنهم ينتمون للفكر الراديكالي.
إذن نحن أمام أسلوب في الثقافة قائم على الانتقائية والحرية في الاستكشاف والغرابة في العيش والتفرد بالأفكار والجمال في الحب والعلاقات اسمه البوهيمية.
** **
- علي بن عيضة المالكي