في الساعة السابعة صباحًا من يوم الثاني من يوليو عام 1961، انطلق صوتُ طلقةٍ مدوّية في منزلٍ ريفي بمدينة كيتشوم بولاية أيداهو الأمريكية. عندما دخلت الشرطة، وجدت جسدَ الكاتب العظيم أرنست همنغواي منهارًا بجوار بندقيته المفضلة، ليكون رحيله صدمةً للعالم، كما كان رحيل صديقه ألبير كامو قبل عامٍ ونيف في حادثِ سيارةٍ عبثيّ بباريس.
لم يكن أحدٌ يتخيل أن يُنهي «بابا» همنغواي، أسطورة الأدب الذي جسّدَ قوةَ الإرادة الإنسانية، حياته بهذا الشكل المأساوي، وأن الرئيس الأمريكي جون كينيدي سيعبّر عن حزنه قائلًا: «فقدت أمريكا صوتًا عظيمًا كان يُصغي إلى نبض الإنسان في مواجهة الوجود».
البحث عن المعنى في مواجهة العبث: في روايته «العجوز والبحر»، قدّم همنغواي إجابةً ضمنيةً على السؤال الوجودي الذي شغل كامو في «أسطورة سيزيف»: كيف نواجه العبثية دون أن نخسر إنسانيتنا؟ كانت شخصية العجوز سانتياغو تجسيدًا لرؤية همنغواي: «الإنسان ليس مُعدًا للهزيمة.. يُمكن تدميره، لكن لا يُمكن هزيمته». هذه العبارة أصبحت مرجعًا لكامو نفسه، الذي كتبَ ذات مرةٍ لهمنغواي: حين أقرأ سانتياغو، أتذكّر أن التمرد هو أن نخلقَ معنىً حتى لو كان الوجودُ بلا معنى». لم يكن همنغواي فيلسوفًا بالمعنى التقليدي، لكنّ كتاباته حوّلت الصراعَ اليومي مع الوجود إلى ملحمةٍ إنسانية. في رسالةٍ إلى كامو، عبّر عن رأيه: الموتُ جزءٌ من اللعبة، لكن ما يهمُّ هو كيف نلعبُ أدوارنا قبل الرصاصة الأخيرة». هكذا جمعَ الرجلان، رغم اختلاف أساليبهما، بين العبث والبطولة، مُذكرين بأن الحياةَ تستحقُّ أن تُعاش حتى في ظلّ اللايقين.
طفولته: البذرة الأولى للقسوة والجمال، وُلد همنغواي في أوك بارك بولاية إلينوي عام 1899، لوالدٍ طبيبٍ قاسٍ علّمه الصيدَ مبكرًا، وأمٍ متسلطةٍ حاولت فرضَ حبّ الموسيقى والأدب عليه. في مذكراته، يصفُ طفولته بالقول: «العنفُ كان لغتي الأولى تعلّمتُ من الغابات أنَّ الجمالَ لا ينفصل عن الألم». هذه الثنائية ستطبعُ أدبه لاحقًا، حيثُ الجبالُ والبحارُ شاهدةٌ على صراعات أبطاله الداخلية.
الحربُ: مدرسته الأولى في العبث بعد تجربته كسائق إسعاف في الحرب العالمية الأولى، حيث أُصيبَ بجروحٍ بالغة، بدأ همنغواي رحلته للبحث عن «الحقيقة المطلقة» خلفَ أقنعة الحضارة. في رواية «وداعًا للسلاح»، يسخرُ من فكرة البطولة الزائفة: «الكلمات مثل الشرف أو المجد صارت بلا معنى أمام دماء الجنود». لم يُؤمن بالأيديولوجيات، بل بالإنسان المُنهك الذي يُصارعُ مصيره. وكما قال كامو: «التمردُ هو أن ترفضَ أن تكونَ ضحيّة الأدبُ ملاذًا من العدمية: على عكس كامو الذي انغمسَ في الفلسفة، اختار همنغواي الاقتصادَ اللغويَّ ليعكسَ تعقيدَ الوجود. في «لمن تقرع الأجراس»، يصوّر البطلَ روبرت جوردن وهو يواجه الموتَ ببرودَة، مُختارًا مصيرَه في لحظةٍ تُذكّر بتمرد سيزيف. كتبَ همنغواي: «العالمُ مكانٌ جميلٌ يستحقُّ القتال من أجله وأنا أقاتلُ لقبول الجزء الثاني من الجملة.
« نوبل ونهايةٌ مُبهمة: حين مُنح جائزة نوبل عام 1954، ألقى خطابًا موجزًا وصفَ فيه الكاتبَ بـ»الصياد الوحيد في بحرِ الكلمات». لكنّ شياطينه الداخلية – الاكتئاب وإدمان الكحول – طاردته حتى النهاية.
في سنواته الأخيرة، كتبَ: «الحياةُ قاسيةٌ كالمنجل، لكنّي أفضّلُ أن أكونَ حَبّة قمحٍ عنيدةً تحت أسنانها». رحلَ تاركًا وراءه إرثًا يُجسّدُ عبثيةَ الوجود، لكنّه يُثبتُ أنَّ التمردَ عليها هو ما يجعلنا بشرًا.
ذكرى كامو: حوارٌ يتجاوز الموت: في الذكرى السنوية لرحيل كامو، قدّم همنغواي تحيةً خفيةً لصديقه في مقالٍ نُشر بعد وفاته: «الموتُ يسرقُ الأجساد، لكنّ الكلماتَ تبقى أسلحةً في وجه العدم، كامو علمني أنَّ التمردَ فنٌّ، وأنا علمته أنَّ الفنَّ يجب أن يُدمي الأصابعَ ليُلمسَ القلب». هكذا ظلَّ الرجلان، رغم اختلاف نهجهما، شاهدَين على أنَّ العبثَ ليس نهايةً، بل بدايةٌ لخلقِ معانينا الخاصّة.
** **
- عبدالإله بن عبدالله الطويان