بينما تعد القراءة السياحية قراءة سطحية أو لمجرد المتعة وتزجية الوقت بين الكتب والمواد المقروءة، فإن القراءة الخلاقة هي قراءة معمقة تستهدف ما خلف الكلمات وما بين السطور.
ويتطلب هذا النوع من القراءة تركيزًا قويًّا ورغبة حقيقية للتفرغ لها بعيدًا عن أي ملهيات جانبية، ولذلك فإنها تعد أعلى مستويات الفهم القرائي. كما أنها تعتمد على التفاعل الإيجابي والجاد مع الكتاب مدفوعًا بأهداف محددة للقراءة.
ورغم أن القراءة تحمل اسمًا واحدًا فإنها تصنف بمستويات متعددة، ولذلك فقد قيل إنه لا يوجد شخصان قرآ نفس الكتاب؛ بمعنى أن كل شخص يفهمه بطريقة مختلفة اعتمادًا على خلفيته وقدرته على فهم النص. بل إن الشخص الواحد لا يمكنه قراءة نفس الكتاب مرتين نظرًا لتغير خلفياته في كل مرة يقرؤه؛ بسبب ما يسمى التراكم المعرفي.
القراءة الخلاقة هي أكثر من مجرد امتصاص المعلومات، إنها التفاعل مع المقروء واستنباط واستخراج أفكار جديدة ربما غير مذكورة حتى في النص. وهي تساعد القارئ أن يستخدم خيالاته لخلق معان ومفاهيم جديدة.
تحتاج هذه القراءة إلى براعة لا تأتي بالمرور السريع على صفحات كتاب، بل إلى الوقوف على كثير من مفرداتها وتأملها، وربما احتاج الأمر إلى الرجوع إلى صفحات سابقة، أو إلى معجم، للتعرف على بعض المفردات الغامضة.
وبالطبع فإنه لا يمكن القول إن جميع الكتب تحتاج إلى هذا النوع من القراءة، فبعضها يمكن للقارئ أن يتمها وهو نصف نائم.
ومن أجل تطوير قدرتك على القراءة الخلاقة فإنك بحاجة إلى أن يكون دماغك يقظًا طوال مدة القراءة، وأن تطرح على نفسك أسئلة في كل سطر أو كل صفحة من قبيل: «لماذا استخدم الكاتب مفردة معينة أو جملة معينة في مكان ما من النص؟». كما تحتاج إلى أن تربط النص المقروء بخلفيتك ومشاعرك السابقة، وأن تمزجها معًا لكي تخرج بنتيجة تكون لك بمنزلة الضوء الذي يساعدك في قادم حياتك.
كما أن هذا النوع من القراءة بحاجة إلى أن يطلق القارئ فيه العنان لخياله لتخيل الشخصيات أو المواقع الواردة في الكتاب المقروء (في حال وجودها)، منغمسًا في أحداثها، وربما متعاطفًا مع بعض الشخصيات ومبغضًا لأخرى، وربما إسقاط هذه الشخصيات على واقعه.
قال لي أحدهم إنه عندما سمع بأحداث إحدى الروايات من صديق له حاول تذكر اسم الفيلم الذي يتحدث عنه قبل أن يتذكر أنه قرأها كرواية، وأنه من شدة اندماجه مع الرواية جسّد كل شخصية منها كأشخاص حقيقيين وكأنه فيلم.
وهنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة تنويع أساليب وتقنيات القراءة من حين لآخر ومن نص لنص؛ فهناك القراءة السريعة والقراءة الجهرية أو السرية والفردية أو الجماعية، إذ بينما يناسب بعضها مادة ما فربما لا يناسب أخرى. كما أن القارئ قد يحتاج أحيانًا إلى مناقشات مع زملاء أو رفاق لكي يستوعب ما يقرأ أو ليزيد من مساحة الفهم والإدراك.
كل هذه الأمور بحاجة إلى براعة وحرص كبيرين حتى تؤتي القراءة الخلاقة أُكُلها وتثمر وعيًا متكاملًا لما يُقرأ، ينعكس بالضرورة مع الوقت على نتاج القارئ أو سلوكه اليومي.
** **
- يوسف أحمد الحسن
تويتر: (@yousefalhasan)