تضيقُ دائرةُ الحرفِ وتتسع عند مجردِ الشروع في الحديث عن الراحل غازي القصيبي، الشاعر الأديب الكاتب السفير والدبلوماسي الوزير، من ترك لنا إرثًا أدبيًا غنيًا ومسيرة ثرية حافلة بالإنجازات.
تعد ثيمة النص جزءًا أساسيًا لفهمِ أيِّ نوع من الأدب ولفهم الأسلوب الكتابي، فهي تعكس الاهتمامات الفكرية والاجتماعية، وتتعلق الثيمة بالمعنى العميق أو الفكرة المتكررة التي يتم استكشافها عبر رموز، شخصيات، أو أحداث داخل العمل نفسه.
ونشير إلى أن: «أي قطعة لغوية تتوفر فيها وحدةُ المعنى لا تكون إلا نصًا»، فالنص هو كل ما يشتمل على نظامٍ لغوي يمكن التعرف عليه (ليس مجرد الكتابة، ولكن الكلام كذلك) وقد يعني ذلك أن المحادثة أو الأغنية بمثابة نص.
أما الثيمة فهي كلمات وصيغ ذات وظـائف دلالية بـارزة في النص أو العمل الأدبي ككل، مثلا: ديوان أنت الرياض به ستٌ وعشرون قصيدة متنوعة الموضوعات والمعاني إلا أن ثيمة الحب هي الثيمة الرئيسة في الديوان، فهو ديوان ينبض بالحب، حب الوطن والأنثى والحرية والقيم الإنسانية، وديوان مرثية فارس سابق يحوي عشرَ قصائد منوعة، يصب جُلها في شجب الاحتلال العراقي للكويت، وفي مقابل ذلك ظهرت ثيمة السموّ وتجلت في التغني بأمجاد الوطن وموقف الملك فهد -رحمه الله- في أزمة الكويت. وحديقة الغروب ديوان ثيمته الحزن والأسى جاء في إحدى عشرة قصيدة، وهو عبارة مرثية طويلة رثى فيها نفسه، وذكر فيها مناقب الراحلين الأعزاء على قلبه، الذين خلّدهم بكلمات عذبة المعنى والمقصد، فهو القائل «على كل قبر من دموعي قطرة».
وتظهر ثيمة الانتماء والاعتزاز في كتابه (عن قبيلتي أحدثكم)؛ فالقبيلة التي يتحدث عنها القصيبي هي قبيلة الشعر والشعراء ويؤكد انتماءه إليها قائلا: «بوسعي، باعتبار أنه يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره، أن أهجو أبناء قبيلتي الشعرية، محتفظًا في الوقت نفسه بحقي في رفض هذا الهجاء، والتصدي له، حين يجيء من خارج القبيلة»، وقد سُئل في آخر حياته بعد توليه المناصب المتعددة ما الوصف الذي يروق لك أن توصف به، فأجاب: الشاعر.
والمتأمل في أعمال غازي القصيبي يجد مجموعة كبيرة من الثيمات نقف على الأبرز منها:
ثيمة الحنين، يُعد الحنين في أدب القصيبي من الموضوعات المهمة التي تظهر بشكل لافت في العديد من أعماله. يتم تناول الحنين في كتاباته ليس فقط كعاطفة شخصية، بل كحالة وجودية وثقافية تتداخل مع التجارِب الإنسانية في سياقات متعددة. وقد استعمل الحنين ليعبّر عن تداخل الزمن، والذاكرة، والمكان، والانتماء، وهو عنصر يربط بين الماضي والحاضر ويعكس حالة من الفقد والاشتياق، كالحنين للطفولة، والحنين لمرحلة الشباب.
وتظهر ثيمة الحب في جُل نتاجه الأدبي، فالحب من الموضوعات المتكررة والمركبة عند القصيبي يجمع فيه بين العديد من المعاني المختلفة، فهو شعور عاطفي وفي الوقت نفسه حالة إنسانية عميقة تتداخل مع مفاهيم أخرى كالوطنية ففي قصيدة أنت الرياض يجعل المحبوبة هي الرياض والرياض هي المحبوبة. وتمتزج ثيمة الحب بالفقد تارة وبالبحث عن الذات، والتحدي والصراع الداخلي تارة أخرى كما في رواية رجل جاء وذهب. ويجسّد القصيبي الحب أيضًا كقوة معقدة مليئة بالتناقضات فهو يجمع بين الجمال والألم، الأمل واليأس، السعادة والحزن.
ويظهر الحب كرمز للسلام الداخلي من جانب آخر، ففي بعض أعماله نجد أن الحب يُقدم بديلاً للضياع أو الاغتراب، حيث يصبح وسيلة لتصالح الشخص مع ذاته ومع العالم من حوله. وقد عُني القصيبي بشكل كبير بقضايا الحرية الشخصية وحقوق الإنسان مما جعل ثيمة الحرية والكرامة الإنسانية تلامس العديد من أعماله.
ولم يألُ جهدا في تناول المرأة وقضاياها في أعماله، فغالبًا ما يثير العديد من الأسئلة بشكل جريء حول حقوق المرأة، والقيود المفروضة عليها، وأحلامها المحطمة! وليته بيننا الآن ليرى كيف تحولت مملكتنا الغالية بفضل رؤية سيدي ولي العهد، الذي مكن المرأة في ظل قيادة والدنا الغالي الملك سلمان حفظه الله.
وكثيرا ما كان تظهر ثيمة الحياة والموت في أعماله الأدبية. يطرح القضايا الوجودية والمصير الإنساني، مما يجعله يدمج بين الفلسفة والواقع الاجتماعي. وتأتي ثيمة الحزن في ظل فلسفة الوجود، وهي في أعماله تتميز بعمقها الإنساني وصدقها في التعبير عن معاناة الفرد في مواجهة التحديات الحياتية، سواء كانت اجتماعية أو شخصية. فالحزن في رواياته شعور حيّ وجزء من التجربة الإنسانية التي يواجهها الفرد في مجتمع تتعدد فيه القضايا والتحديات، ويستعمله كأداة للتأمل في الواقع الإنساني، ومراجعة الذات، والبحث عن معاني الحياة في عالم مليء بالصعوبات والضغوطات.
وقد عاش القصيبي في فترة انتقالية بين التقاليد الراسخة ومحاولات التجديد، فانعكس هذا الصراع في معظم نصوصه حيث يعالج بأسلوب متوازن العلاقة بين الماضي والمستقبل فثيمة الصراع بين التقليد والحداثة تأخذ حيزا واسعا في أعماله.
وتتجلى ثيمة الاغتراب والشعور بالوحدة في شخصياته الروائية، فكثيرًا ما تعيش في حالة من الاغتراب عن المجتمع أو الوطن أو حتى عن نفسها. ويصف القصيبي هذه الحالة كنوع من العزلة النفسية التي تأتي نتيجة للواقع المعاش أو التغيرات الاجتماعية. ولم يكن يخشى التصدي لقضايا المجتمع بشفافية! ينتقد الجمود الفكري، البيروقراطية، والفساد بطريقة ساخرة أحيانًا ومؤلمة أحيانًا أخرى لتمثل ثيمة النقد الاجتماعي.
وهكذا نجد أن ثيمة النص عند القصيبي تجمع بين التطلعات الإنسانية والهموم الاجتماعية، وتعكس عمقًا فكريًا وتحليلاً للإنسان والمجتمع، من خلال تناول قضايا مثل الحرية والكرامة، الاغتراب، قضايا المرأة، والنقد الاجتماعي، ما يجعل أعماله ملهمة لفهم العديد من جوانب الحياة العربية الحديثة.
** **
- د.نجوى الكحلوت