يعدّ البحث في أسس العلاقات الدولية عملاً خطابياً؛ فالعلاقات البشرية لا تنشأ خارج اللغة، كما أن اللغة لا تنشأ خارج العلاقات الإنسانية، وعليه، فعلاقة الإنسان بالإنسان في العصر الحديث هي حكاية لغوية كبرى، تتغيا بناء روابط وأسسا قائمة على الاحترام المتبادل، والتعاون المثمر؛ من أجل فهم صحيح للقوانين الدولية، والأعراف السياسية، وقرارات الشرعية الدولية الهادفة إلى تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
وقد كانت مواقف المملكة العربية السعودية ولا تزال من حقوق الشعب الفلسطيني مضرب المثل في الالتزام بالقانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة الساعية إلى تحقيق الأمن والسلم الدوليين، ففي بيانٍ لوزارة الخارجية السعودية قبل أيام تظهر بجلاء المواقف السعودية الراسخة والثابتة من قيام الدولة الفلسطينية، والرفض القاطع المساس بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه وبلاده.
وقد اتكأ بيان وزارة الخارجية السعودية في رفضه تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه على العمل القولي الإثباتي التلفظي الذي اتخذ من موقف القيادة السعودية الحكيمة قوة خطابية إنجازية، جاء في البيان: «تؤكد وزارة الخارجية أن موقف المملكة العربية السعودية من قيام الدولة الفلسطينية، هو موقف راسخ وثابت لا يتزعزع، وقد أكدّ صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله- هذا الموقف بشكل واضح وصريح لا يحتمل التأويل بأي حال من الأحوال خلال الخطاب الذي ألقاه سموه في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى بتاريخ 15 ربيع الأول 1446ه، الموافق 18 سبتمبر 2024م، حيث شدد سموه على أن المملكة العربية السعودية لن تتوقف عن عملها الدؤوب في سبيل قيام دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وأن المملكة لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون ذلك».
ففي هذا البيان الكريم أعمال قولية تداولية تسعى إلى تقوية النشاط اللغوي السياسي الدبلوماسي؛ لتأكيد الموقف السعودي الراسخ من القضية الفلسطينية، وفي البيان -أيضاً- إستراتيجيات إقناعية مرتبطة بالمقاصد السياسية، والتخطيط اللغوي في بناء المواقف الراسخة، وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، ومن هذه الإستراتيجيات، العمل التلفظي التأكيدي (تؤكد وزارة الخارجية، وقد أكدّ صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، شدد سموه»، وهذه الأعمال القولية التداولية التأكيدية تعبيرٌ عن موقف المملكة الراسخ من الحق الفلسطيني المشروع، وتأثيرٌ في المتلقي لهذه الخطابات السياسية، وحملٌ له على الاقتناع بالموقف السعودي المؤيد للقضية الفلسطينية، والرافض للتهجير وسياسات الاستيطان الإسرائيلي.
وقد استعان البيان المار ذكره بالقوة الإنجازية الوصفية للأعمال القولية: «موقف راسخ وثابت لا يتزعزع.. بشكل واضح وصريح لا يحتمل التأويل بأي حال من الأحوال»، وهذه القوة التلفظية ضرب من ضروب تأكيد المواقف الراسخة، وطريقة من طرائق بناء السياسات اللغوية في العلاقات الدولية، وسبيل من سبل صناعة الحجة في الدبلوماسية الخطابية، والنشاط اللساني التواصلي.
وحمل البيان السابق أعمالاً قولية وعدية: «المملكة العربية السعودية لن تتوقف عن عملها الدؤوب في سبيل قيام دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وأن المملكة لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون ذلك»، فالعمل الدؤوب من أجل قيام الدولة الفلسطينية مظهر من مظاهر بناء القوة الإنجازية الطلبية في الأعمال القولية الوعدية، وهذا كله راجع إلى تأكيد الموقف السعودي الثابت من القضية الفلسطينية، وحمل المتلقي على الاعتراف بالحق الفلسطيني، والالتزام بقرارات الشرعية الدولية.
واستند بيان وزارة الخارجية السعودية على إستراتيجية حجة السلطة؛ للتعبير عن المقاصد التداولية للخطاب السياسي، وتأكيد الموقف السعودي الثابت من الحق الفلسطيني، جاء في البيان: «كما أبدى سموه -حفظه الله- هذا الموقف الراسخ خلال القمة العربية الإسلامية غير العادية المنعقدة في الرياض بتاريخ 9 جمادى الأولى 1446هـ، الموافق 11 نوفمبر 2024م، حيث أكدّ سموه على مواصلة الجهود لإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية، والمطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية»، ففي هذا المقطع الخطابي من البيان السعودي تتجلى بوضوح الإشاريات التلفظية الزمانية: (الرياض بتاريخ 9 جمادى الأولى 1446هـ، الموافق 11 نوفمبر 2024م )، وهي ضرب من ضروب الإقناع والتأثير في التواصل السياسي، وسبيل من سبل إظهار الكفاية اللغوية الاستدلالية في التخاطب السياسي؛ لتوجيه المتلقي الوجهة المقصودة من الخطاب التي تتمثل في تأكيد الموقف السياسي السعودي الثابت من القضية الفلسطينية، وهذا كله راجع إلى الغرض التواصلي للعمل القولي السياسي بوصفه عنصراً من عناصر الاتصال اللغوي، وأسلوباً من أساليب قوة العمل القولي في الخطاب السعودي السياسي، وتثبيتاً للقوة الإنجازية للخطابات السياسية السعودية المتعلقة بقضية الشعب الفلسطيني، وتحقيقاً لمبادئ العدالة الدولية وقرارات الأمم المتحدة.
ونلاحظ في البيان المار ذكره استحضار السياقات التداولية في الزمان التلفظي بالمشير المقامي (هذا) العائد إلى موقف المملكة في القمة العربية الإسلامية غير العادية المنعقدة في الرياض، وهو موقف ثابت راسخ لا يتغير بتغير الأزمان والأحوال والمقامات التواصلية، وفي ذلك تقرير لمواقف المملكة الثابتة من الحق الفلسطيني، والتزام بحل القضية الفلسطينية، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وهذا ما أكدته الأعمال القولية الالتزامية الوعدية: (حيث أكدّ سموه على مواصلة الجهود لإقامة الدولة الفلسطينية.. والمطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية)، وفي ذلك دليل على العلاقة الوطيدة بين اللغة والاتصال والسياسة، وأثر الأعمال القولية في تثبيت المواقف السياسية، والكشف عن الكفايات التواصلية الاستدلالية في التخاطب القولي.
واحتوى بيان وزارة الخارجية السعودية أعمالاً توجيهية طلبية: «وحث سموه المزيد من الدول المحبة للسلام للاعتراف بدولة فلسطين، وأهمية حشد المجتمع الدولي لدعم حقوق الشعب الفلسطيني الذي عبرت عنه قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، باعتبار فلسطين مؤهلة للعضوية الكاملة للأمم المتحدة»، ففي هذا المقطع الخطابي تظهر القوى الإنجازية التلفظية (حث سموه المزيد من الدول... وأهمية حشد المجتمع الدولي لدعم حقوق الشعب الفلسطيني)، فهذه الأعمال القولية تشمل غرضاً إنجازياً تداولياً، هو توجيه المخاطب إلى فعل الاعتراف بدولة فلسطين، ودعم حقوق الشعب الفلسطيني الذي عبرت عنه القرارات الدولية، وفي ذلك إشارة إلى أثر الفعل التواصلي السياسي والتخطيط اللغوي الدبلوماسي في التوجيه والإرشاد، وتعديل المواقف، وتوحيد القرارات الأممية؛ لنشر السلام في العالم، وتطبيق قرارات الأمم المتحدة الداعمة لحقوق الشعوب في العيش الكريم.
وفي بيان وزارة الخارجية السعودية أعمال قولية إنجازية تحمل طابع الثبوت والالتزام والدوام، ومن ذلك: «كما تشدد المملكة العربية السعودية على ما سبق أن أعلنته من رفضها القاطع المساس بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة سواءً من خلال سياسات الاستيطان الإسرائيلي، أو ضم الأراضي الفلسطينية، أو السعي لتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه»، ففي هذا البيان التلفظي الإنجازي تتكشف النبرة اللغوية الشديدة (كما تشدد المملكة)، وتظهر القوة الخطابية الاستلزامية المتمثلة في الروابط والعوامل التداولية الحجاجية (على ما سبق أن أعلنته من رفضها القاطع)، والسلم الحجاجي الموجه للنتيجة المرجوة من التفاعل القولي (سياسات الاستيطان الإسرائيلي- ضم الأراضي الفلسطينية- السعي لتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه)، وهذا كله راجع إلى الإستراتيجيات التلفظية في بناء القيمة الإقناعية والتأثيرية للفعل اللغوي السياسي، وإنتاج العمل القولي في المقام التخاطبي .
وفي بيان وزارة الخارجية السعودية تتكشف مظاهر التصريح بالإنشاء القولي للعمل التلفظي؛ لتأكيد موقف المملكة العربية السعودية الرافض لتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه ووطنه، جاء في البيان: «وتؤكد المملكة أن هذا الموقف الثابت ليس محل تفاوض أو مزايدات، وأن السلام الدائم والعادل لا يمكن تحقيقه دون حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة وفقاً لقرارات الشرعية الدولية، وهذا ما سبق إيضاحه للإدارة الأمريكية السابقة، والإدارة الحالية»، ففي هذا البيان تضافرت الوسائل اللغوية؛ لتأكيد التوجيه القولي التداولي المتمثل في رفض تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه ووطنه، فالعمل القولي الإنشائي (وتؤكد المملكة)، و المشير المقامي (هذا الموقف)، والعمل التلفظي الإنجازي (ليس محل تفاوض أو مزايدات)، والفعل التخاطبي الوصفي (وأن السلام الدائم والعادل لا يمكن تحقيقه دون حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة)، والعوامل الحجاجية التداولية الإقناعية (وهذا ما سبق إيضاحه للإدارة الأمريكية السابقة، والإدارة الحالية) كلها إستراتيجيات تواصلية تسعى إلى تقوية المنطوق الإنجازي للنشاط اللغوي السياسي، وتأكيد الموقف السعودي الثابت من تهجير الفلسطينيين، و»العمل على رفع المعاناة الإنسانية القاسية التي يرزح تحت وطأتها الشعب الفلسطيني، الذي سيظل متمسكاً بأرضه، ولن يتزحزح عنها».
وقد أكدت المقاربة التداولية لبيانات وزارة الخارجية السعودية أن (الإثبات) عملٌ إنشائي متضمناً بالقول، ينجزه المتكلم وفق السياقات التلفظية والمقامات التخاطبية، وهذا العمل القولي التداولي خاضع لمقاصد منشئ الخطاب ووجهة نظره وجهة اعتقاده، فهو توجيه استدلالي ضمني مرتبط بفعل إنجاز القول وإيقاعه في الخطاب، وهذا ما يجعل العمل القولي الإنشائي التأكيدي من أهم الإستراتيجيات التداولية المستعملة في ترسيخ المواقف في المقامات التواصلية الإنجازية في أثناء التخاطب السياسي.
وفي بيانات وزارة الخارجية تظهر المعاني التداولية التي يخرج إليها العمل القولي التلفظي المؤكِد لموقف المملكة الراسخ الذي يرفض تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، ومن أمثلة العمل القولي الإثباتي الفعل الكلامي التعبيري (يثمن)، وهو فعل تواصلي يصف أعمالاً متضمنة في القول خاضعة لمواقف المشاركين في الحدث اللغوي السياسي، ومن ذلك ما جاء في بيان وزارة الخارجية السعودية: «تثمن المملكة العربية السعودية ما أعلنته الدول الشقيقة من شجب واستهجان ورفض تام حيال ما صرح به بنيامين نتنياهو بشأن تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، كما تثمن المملكة هذه المواقف التي تؤكد على مركزية القضية الفلسطينية لدى الدول العربية والإسلامية»، ففي هذا المقطع الخطابي قوى إنجازية مباشرة متحققة بالقول، وهي: (شجب، واستهجان، ورفض تام حيال ما صرح به بنيامين نتنياهو بشأن تهجير الشعب الفلسطيني)، وهذه القوى الإنجازية المتعددة جاءت لتؤكد العمل القولي التلفظي (رفض التهجير)، فهي بمنزلة الاستلزام الحواري التخاطبي القائم على مبادئ التعاون من أجل إنشاء عمل قولي جماعي يرفض التهجير، ويؤكد حق الشعب الفلسطيني في أرضه وبلاده.
ومن القوة الإنجازية المستلزمة في العمل القولي التلفظي، قوة المشير المقامي (هذا)، الباني لموقف المملكة الثابت من القضية الفلسطينية، جاء في البيان: «وفي هذا الصدد، تؤكد المملكة رفضها القاطع لمثل هذه التصريحات التي تستهدف صرف النظر عن الجرائم المتتالية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي تجاه الأشقاء الفلسطينيين في غزة ، بما في ذلك ما يتعرضون له من تطهير عرقي»، ففي هذا المقطع الخطابي تثبيت وتأكيد للموقف السعودي الرافض للتهجير، وقد اتكأ منشئ البيان على القوة القولية المستلزمة للعمل القولي الإثباتي المتمثلة في التلفظ الوصفي الاستلزامي التداولي:(رفضها القاطع، الجرائم المتتالية، الاحتلال الإسرائيلي، الأشقاء الفلسطينيين، تطهير عرقي).
ومن مظاهر إنشاء العمل القولي الإثباتي الرافض لتهجير الفلسطينيين الفعل الكلامي الإيقاعي (تشير) الذي يوقع بالقول فعل الإنكار والاستهجان والإدانة للعقلية المتطرفة المحتلة، جاء في البيان: «وتشير المملكة إلى أن هذه العقلية المتطرفة المحتلة لا تستوعب ما تعنيه الأرض الفلسطينية لشعب فلسطين الشقيق، وارتباطه الوجداني والتاريخي والقانوني بهذه الأرض، ولا تنظر إلى أن الشعب الفلسطيني يستحق الحياة أساساً؛ فقد دمرت قطاع غزة بالكامل، وقتلت وأصابت ما يزيد على (160) ألفا أكثرهم من الأطفال والنساء، دون أدنى شعور إنساني أو مسؤولية أخلاقية»، لقد حفل هذا المقطع بكثير من الإستراتيجيات التداولية الإقناعية التي تقوي العمل القولي الإثباتي الرافض لتهجير الشعب الفلسطيني، ومن ذلك الاستعانة بالمعاني الاستلزامية الإنجازية للعمل القولي الطلبي: (العقلية المتطرفة المحتلة لا تستوعب ما تعنيه الأرض الفلسطينية لشعب فلسطين الشقيق، ولا تنظر إلى أن الشعب الفلسطيني يستحق الحياة أساساً)، والاتكاء على العمل القولي التأثيري؛ لسرد النتائج المدمرة للحرب على غزة: (فقد دمرت قطاع غزة بالكامل، وقتلت وأصابت ما يزيد على (160) ألفا أكثرهم من الأطفال والنساء)، وتعداد الآثار السلبية للحرب ضرب من ضروب التواصل بين المتفاعلين في الحدث اللغوي؛ لحمل المتلقين على إدانة ورفض عمل تهجير الفلسطينيين من أرضهم.
وتتكشف في بيانات وزارة الخارجية السعودية المعاني المولدة للعمل القولي الإنشائي (تؤكد المملكة)، ومن هذه المعاني:
-الفلسطينيون أصحاب حق في أرضهم: «وتؤكد المملكة أن الشعب الفلسطيني الشقيق صاحب حق في أرضه، وليسوا دخلاء عليها أو مهاجرين إليها يمكن طردهم متى شاء الاحتلال الإسرائيلي الغاشم).
- حق الشعب الفلسطيني راسخ ثابت لا يتزعزع: «كما تؤكد المملكة أن حق الشعب الفلسطيني الشقيق سيبقى راسخاً، ولن يستطيع أحد سلبه منه مهما طال الزمن، وأن السلام الدائم لن يتحقق إلا بالعودة إلى منطق العقل، والقبول بمبدأ التعايش السلمي من خلال حل الدولتين».
ففي هذه المقاربة التداولية يتكشف بجلاء موقف المملكة العربية السعودية من قيام الدولة الفلسطينية، فهو موقف واضح صريح ثابت، لا يحتمل التأويل بأي حال من الأحوال. حفظ الله بلادنا الغالية وبلاد العرب والمسلمين من كل شر ومكروه.
** **
د. قالط بن حجي العنزي - باحث في السرديات التداولية
تويتر: (qalit2010@)