في المجموعة القصصية «منسية» التي أصدرتها الدكتورة القاصة شيمة الشمري عام 1443هـ عن دار تكوين للطباعة والنشر، تتجلى العتبات النصية في تمازج بديع بين الغلاف والمحتوى الداخلي، حتى ليبدو كل منهما امتدادا للآخر، يفسر أحدهما الآخر، ويمنحه بعدا دلاليا أعمق.
فالواجهة البصرية للكتاب تجسد نصف وجه فتاة متعبة، وكأنما اختزلت ملامحها أوجاع السرد وصراعاته الداخلية، بينما يأتي الإهداء ليضفي على هذه الصورة أبعادا فلسفية، حيث يعلن مقاومة بؤس العالم عبر أدوات الفن والرسم والموسيقى، في تأكيد على أن الإبداع هو الملاذ الأخير للروح.
افتتحت د. شيمة الشمري، التي برزت في فن القصة الومضة عبر عدة إصدارات سابقة، مجموعتها «منسية» بقصة موغلة في الرمز، تتجسد من خلال شخصية «صاحب الوحمة الغامقة»، حيث يتوارى المعنى خلف طبقات من التأويل، تاركة للقارئ مهمة فك شفراته العميقة.
أما القصة الثانية، ابتسامات غائبة (ص9)، فتغزل خيطا رفيعا بين الماضي والحاضر، حيث تظهر الصور القديمة ابتسامتها المشرقة، وكأنها مرآة لزمن ولّى، فيما يبقى الحزن أسير اللحظة الراهنة. لكنها كلما اشتاقت لتلك الابتسامة، وجدت العزاء في العودة إلى صورها القديمة، وكأنها تستحضر ما خذلها الواقع بالرجوع إلى صور الماضي.
في القصة الواردة ص27، يبدو أن شيمة الشمري تستلهم من أدب النوازل روحها السردية، حيث تلامس وجع الذاكرة الجماعية في زمن الوباء كورونا تقول: «عندما هاجمنا الوباء خفت على صغيرتي. حملتها وزرعتها في لوحة بإطار وردي على الحائط. انتهى الوباء لكنها ما زالت عالقة في قلب اللوحة».
هنا، يتجاوز السرد لحظته الآنية ليحمل بعدا رمزيا عميقا ؛ فالطفلة التي أصبحت جزءا من لوحة ليست إلا استعارة عن الإنسان الذي علقت روحه في إطار الخوف، محاصرةً بين زمن مضى. وربما أرادت الكاتبة الإيحاء بأن ذاكرة الوباء – كورونا – قد تركت ندوبها الغائرة في الوجدان البشري، ندوبا لا تمحوها عودة الحياة إلى طبيعتها، بل تظل محفورة في الذاكرة، كما لو أنها جزء من لوحة لا تبهت ألوانها.
في هذه المجموعة تأنقت عناوين القصص بروح رمزية بعيدة عن قيود السرد المباشر؛ فقد حملت عناوين مثل: ثقب، كتاب، بطل ، لتترك للقارئ فسحة التأويل وفقَ رؤيته الخاصة.
وفي قصة منسية، التي عنونت بها المجموعة ص43، يظهر انفراط العقد كتجسيد شعري لتلك اللحظة التي يفقد فيها الزمن معانيه. هنا، تبتكر شيمة صورة المنسية مثل حبة خرز تناثرت من السبحة، رمزاً للفقدان والحنين، في لغة أدبية تحمل بين طياتها مرارة الذاكرة
في ص ، عادت القاصة لتستحضر بمدادها الذكي صورة الوباء، حيث تنساب الكلمات من قلب الألم: «اتصبب عرقًا إثر تلك الحمى اللعينة، وانتظر طبيبي ليمنحني مسكنًا وأملاً...» في هذه القصة تتجلى قوة الوباء في لحظة صفائية مؤلمة تُعبر عنها قائلة: «عبثا نحاول الهرب من مصير محتوم»، تعبيراً عن الوباء الذي أسدل ستاره البهيم، وأحكم على الأرواح، تاركا في الأفق ظلال قدر لا مفر منه.
المجموعة القصصية اشتملت على حوالي 45 قصة، وكما عودتنا الدكتورة شيمة في إصداراتها السابقة، لتبرهن على شغفها العميق بفن القصة القصيرة. في كل نص، تتجلى قضايا الحياة المتنوعة، حيث تمزج روح الأدب الراقي مع عمق التأمل والرمزية، مانحةً القارئ مساحة واسعة للكشف عن معاني الوجود وتحولات الزمن.
** **
- براك البلوي