لطالما شكّل الماء عند الشاعر في بعده المادي العنصر الرمزي في الحياة و في تفاعله مع معاناته التي يصورها بحروف شعره، إنه يعكس تدفقه سيولة الزمن والتجربة الإنسانية.
تتجلى قصيدة «وجه الماء» للشاعرة الجزائرية «سمية دويفي» كمحاولة شجاعة للغوص في أعماق الذات الإنسانية، حيث يتحول الماء إلى مرآة تعكس وجه المعاناة البشرية ورغبة الإنسان في التحرر من أثقال الحياة، ومن يقرأ لسمية نثرا أو شعرا يلمس هذا الطابع في كتاباتها إنها أقرب للذات، حيث إنها تخاطب المعنى بلغة شاعرية خيالية تجعل من الأشياء كينونة شعرية تبوح بلسان إنساني، وإنّ هذه القصيدة هي تجسيد لهذا التصور الفني الذي تمتزج فيه المشاعر المتضاربة من فرح مؤجّل وحزن مترسخ، في لوحة شعرية تعكس اضطراب الروح وسعيها نحو التوازن، إنها قصيدة تدعو القارئ للتأمل في هشاشة الكيان الإنساني أمام قسوة العالم، وتستعين بالماء كرمز مركزي، لا كعنصر طبيعي بل إنه كيان حي يحمل مشاعر الشاعرة.
دلالة العنوان
يحمل العنوان» وجه الماء» دلالات عميقة مفتوحة على تأويلات عدّة تتناغم مع النص الشعري، إنه يثير في القارئ مجموعة تساؤلات حول هذا العنصر الذي أصبح له وجه وهو الذي لا لون له ولا رائحة، إن عنوان القصيدة يجمع بين البساطة والتعقيد، فالوجه هنا ليس مجرد سطح خارجي، بل هو انعكاس للجوهر، ودعوة للتأمل في هذا الانعكاس، إن الشاعرة استخدمت هذه العبارة كتمهيد لتجربة شعرية وشعورية عميقة تحتاج غوص القارئ فيها.
الصورة الشعرية
تمثل الصورة الشعرية للقصيدة مزيجًا بين التلقائية والتكثيف البلاغي التي يلجأ إليها الشاعر لنقل تجربته ومشاعره، والقصيدة قيد دراستنا مليئة بالصور الشعرية التي تعبر لنا كم أنّ الشاعرة مثقلة بالشعور والتجربة.
يبدأ النص بعبارة:
«أمر ببال الحزن أضغاث فرحة»:
هذه الصورة تحمل تباينًا يختصر المضمون الكلي للنص؛ حيث يلتقي الحزن بالفرح في مفارقة تثير إحساسًا بالغربة والاغتراب، هنا، يُجسد الحزن ككيان حاضر في البال، لكنه يحمل داخله بقايا مشوشة من الفرح، فكلمة «أضغاث» تشير إلى التشوش وعدم الاكتمال، وهي كلمة تحمل دلالة رمزية للصور الضبابية التي تظهر في الأحلام أو الذكريات.
إن هذا الشطر يُبرز التداخل العاطفي بين الفرح والحزن، حيث يصبح الفرح وميضًا غير مكتمل، لا يملك القوة ليتحول إلى حقيقة.
في الشطر الثاني نجد صورة أخرى:
«يمر ببالي الليل ضوءًا مؤجلًا»:
صورة الليل، والذي عادة ما يرمز إلى الظلام والهدوء، يتضمن في هذا الشطر عنصر الضوء، لكنه «مؤجل» هذه الصورة تحمل إحساسًا بالأمل المتردد أو المنتظر، قد يشير الضوء المؤجل إلى الحلم أو الخلاص الذي لم يتحقق بعد، مما يضيف إلى النص شعورًا بالأمل والانتظار الطويل الذي يغلفه الحزن.
في البيت:
«وترهبني الغيمات إن بحت للندى
بأني عطر خان زهراً مبللاً»
صورة تبرز حالة الشاعرة المتأرجحة بين الخوف والرغبة في البوح، فيمثل الندى هنا شريكًا متخيلاً للروح، لكن الغيمات - بتشاؤمها الكامن - تعيد فرض الحواجز، وكأن الطبيعة نفسها تُدين محاولات البوح الصادق.
تتوالى الصور الشعرية المشحونة بالدلالات، مثل:
«إذا كنتُ خوف الريح من كل وجهة
وكنتُ رهاب العشب نارا ومنجلا»
هنا، تظهر لنا الشاعر ككيان متضاد، يجمع بين القوة المدمرة والرعب الداخلي، هذه الصور تمنح النص عمقًا فلسفيًا يتجاوز المعاني الظاهرة، مما يجبر القارئ على الغوص في طبقات المعنى لاستكشاف مكامن الألم والضياع.
ونجد تصويرا للوجع في صورة مأساوية جميلة في البيت:
«سأبقى نزيف الروح عشق كمنجة
يُذَبّح باسم اللحن والحزن أعزلا»
إنّ عبارة «نزيف الروح» تجسد عمق الألم والمعاناة التي تعيشها الذات، حيث يتحول الحزن إلى نزيف دائم يعكس استمرارية الشعور بالوجع، ويؤكد استحالة الشفاء التام من هذا الألم.
وتربط الشاعرة بين الألم والعشق في عبارة «عشق كمنجة» ، وكأن الكمنجة، التي تعزف أجمل الألحان، هي أداة تعبير عن هذا العشق المعذّب، فالكمنجة التي ترمز للفن والصوت العذب الذي ينبثق من الألم، توحي بأن الجمال يخرج من قلب المعاناة.
يُذَبّح: هذه الكلمة تبرز التضحية التي تقدمها الذات من خلال الفن أو التعبير و الحزن هنا ليس عابرًا، بل هو شعور قاتل يتخذ هيئة التضحية الدائمة.
ثم تجمع الشاعرة بين اللحن (رمز الجمال) والحزن (رمز الألم)، لتخلق تناقضًا عاطفيًا يظهر كيف يصبح الفن وسيلة للتعبير عن المعاناة وتجسيدها، وسط العجز أو الوحدة، حيث تظهر الذات كأنها تقدم هذا اللحن دون حماية أو دعم، في مواجهة الألم بمفردها.
كما نجد صورة أخرى تقول:
«ذرفتُ حمول القلب في كل دمعة
فكيف بحق النبض قد صرت أثقلا؟»
إنّ كلمة دمع ة تعدّ مصدرا مائيا أيضا، وهذا التعبير يرمز إلى التناقض الذي يعيشه الشاعر؛ حيث نستشعر رغبة في العودة إلى النقاء والجذور تارة، وتارة أخرى إلى النزيف العاطفي والروحي، والمفارقة هنا هي أنه رغم تفريغ الأحزان، لا تزال الروح مثقلة بالهموم.
لغة القصيدة
تلعب لغة الشاعرة دورًا جوهريًا في ترجمة الجدليات المعقدة إلى صور شعرية نابضة بالحياة، ولأنّ اللغة في القصيدة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل عنصر مكوِّن للمعنى ذاته؛ فإنّ «وجه الماء» ليست مجرد قصيدة تأملية، بل هي دعوة إلى مواجهة الذات والاعتراف بما تخفيه من أوجاع، حيث تختصر الشاعرة من خلال اللغة جدلية التناقض؛ فهي تنساب كالماء لكنها تثقل كالصخر، لغة تعكس الحلم لكنها تفضح الخذلان، ولغة توحي بالتيه لكنها تقود في النهاية إلى استكانة الذات، ومن خلال هذه اللغة المتعددة الأبعاد، لا تصبح القصيدة مجرد مرآة للمشاعر، بل تجربة لغوية تنقل القارئ إلى أعمق مستويات التأمل الذاتي، حيث تعمل على خلق التوتر بين الثنائيات المطروحة، فالشاعرة من خلال توظيفها مفردات استطاعت أن تجمع بين الرشاقة والانسيابية مثل: (الماء، الضوء، العطر، اللحن) وبين الكلمات ذات الدلالة الثقيلة الموحية بالمعاناة مثل: (نزيف، حزن، يُذبّح، قسوة).
في نهاية دراستنا هذه، نشير إلى أنّ الشاعرة سمية دويفي تظهر كصوت شعري في الساحة الإبداعية الجزائرية والعربية من خلال كتاباتها، التي تمزج فيها بين الإحساس العميق والرمزية المبتكرة، لتصوغ تجربة إنسانية فريدة، استطاعت أن تجعل قصائدها تتوج بعدد من الجوائز في المحافل الثقافية، و قصيدة «وجه الماء» المتوجة مؤخرا بجائزة القوافي الذهبية المنشورة في العدد (55) لمجلة القوافي، تعدّ قصيدة رمزية لما تحمله من رموز وصور، واستعارات ذات أبعاد متعددة تتحدث عن الألم والشفاء والبحث عن المعنى.. ومن يقرأ هذه القصيدة، سيجد نفسه أمام مرآة شفافة تعكس وجوه الروح الإنسانية بأعمق حالاتها.
** **
- د.الريم حجوج