«لكل شاعر حداثته» مقولة منصفة لكل التجارب والأشكال المتاحة في كتابة الشعر، هذه المقولة صدرت من خبير بالمسألة الشعرية التي تتجاذبها تيارات متناقضة بين التقليد والتحديث، وفي غمرة فضاء الحداثة ثمة حداثات إنسجاما مع المقولة الصائبة التي سددها الشاعرعبد الله الصيخان.
قصيدة التفعيلة تنتمي إلى تيار التحديث بما هو إمتداد لمدرسة الإحياء التي أعادت الروح للقصيدة العمومية بعد أن غمرتها حقبة الإنحطاط جاعلة من ميراث القريض مجرد نظم بلا رونق شكلا ومضمونا، ومعلوم من الشعر العربي بالضرورة أن قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر تيار زلزل المشهد الأدبي العربي، تيار جارف أجرى ماءه الثنائي الجدلي نازك الملائكة وبدرشاكرالسيّاب (جدل الريادة).
شعرية الترميز
فاعلية الرمز في توليد المعنى لدى القارئ هي قصدية الشاعر لتوصيل الخطاب بدلالاته ، وغالبا ما أُقْتُرِن الرمز بالأساطير كما أُقْتُرِن بالغموض، محط الشكوى التقليدية، بيد أن الغموض آلية من آليات بناء النص، وظيفته إنتاج المعنى و ليس الإبهام لمجرد الإبهام، فالشاعر عبد الله الصيخان يكتب قصائد حمّالة للمعاني وتحفل بشعرية الترميز، ولا يتأتى ذلك إلا بقابيلة ذهنية لها إطلاع ثقافي بعادات وبيئة الصحراء (جزيرة العرب) جغرافيا وأعرافا ومأثورات وعبارات مسكوكة وأنماط عيش، يستدعي تفاعل المتلقي (خارج البيئة الأصلية للشاعر) بعض المعرفة الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والتاريخية، وهذا شأن النصوص العميقة العاكسة كمِرآة تفاعلية للمجتمع، بقوالب جمالية وفنية مُبدعة تضمن حلاوة وطراوة القول الشعري في سياقات نصِّية تخييلية حداثية، نجد هذا الأثر الجمالي في كل دواوينه من «هواجس في في طقس الوطن» إلى «زيارة».
جمالية الصورة الشعرية
التعالق بين الرمز والصورة الشعرية قنطرتُه الإيحاء، فمتى خرجت الصورة من الحِسيَّة تُصبح إيحاء، وهذا يصير رمزا. فطبيعة الصورة أنها مُتصلة بالحواس تلتقط لحظة أو تجربة ما، ولها طُرقها أو وسائلها منها: الرمز، الإستعارة، والتشبيه، والمجاز، والكناية.
الصورة وهي تندغم بموقف الشاعر وأحاسيسه الدفينة يرْشَحُ منها الصدق، كما تُتيح تحقيق متعة القراءة أو الإنصات( لحظة الإنشاد)، فهي تنتج تراكيب غير مألوفة بين الألفاظ التي تبدو لنا جُثثا هامدة في قواميس العربية، لتأتي الصورة بسِحرها المُبهر فتُعيد دورة الحياة إلى الكلمات المُحنَّطة في كتب اللغة.
يقول - أوغست شليجل - «الشعر تفكير بالصور»، فعبد الله الصيخان يُفكر بالصورة، ولا يُهمل الإيقاع التفعيلي بموسيقاه الحرة متى استدعت «الضرورة الجمالية» ذلك، وإن كان لقبه «فارس القوافي والصحراء» فهذا لايمنعه من الإستجابة لصوته الداخلي الذي يُملي عليه خيارات جديدة تفرضها جنينية قصائده المُختلفة التي تتدفق كالسيل فتختفي القافية تحت وطأة حالة شعورية جارفة، بالمقابل أثناء إبداع نصوص أخرى تستبد القوافي وتتراقص أجراسها متناغمة مع طبيعة القصيد، وهذه التنويعات فيها إثراء للتجربة وتفاعل حي مع مستويات القراء المتعددة ( جماليات التلقي).
دلالات مستوحاة من قصيدتي «وطن، حبل وامرأة» و»زيارة»
رعشة الولادة أحسبها قصيدة مُتلبسة بثيمة الخطيئة، في نص «وطن،حبل وامرأة» (هواجس وطن/ دار الآداب البيروتية) نقرأ:
ولدٌ على كّفينِ راعشتين من خوف،
غموض سادر في الغيّ،
مئزرة خطيئةً في جنبها ذنْب.
مقطع يشي بفجائعية الموقف الإنساني، لحظة وهن وضعف بشري أمام وقع الخطيئة التي لطالما طاردت مقترفيها من الأسلاف وحتما تطارد الأحفاد، الخطيئة كأنها بإزار(بمئزر) الكفن،الحياة الآدمية على الأرض لا تخلو من الخطايا. الولادة مقرونة بالخوف مأساة لا غبارعليها،المأساة لطالما كانت مرافقة للشعراء كما الملهاة.
في المقطع الموالي ثمّة جملة شعرية عكست ذروة إنفعالية الشاعر المتماهي لحظة الكتابة مع مخاض القصيدة:
وبكت حمامة
وتوسلت للطلح أن يمضي بها نحو انتحار
القمح في تلك الرحى..
جمالية الصورة الشعرية في توصيف مبتكر لمشهد طحن القمح في الرحى، حبّات القمح تتهاوى بقصدية انتحارية، بدءا من التواريخ وهي ترتاح على غصن شجرة وعبر حمامة تبكي وتتوسل للطلح أن يذهب بها إلى مشهد القمح المنتحر..ترميزية مكثفة تتشذر منها صور شعرية مكتظة، الواحدة منها تفضي إلى الأخرى. التكثيف التصويري إياه يكتنز دلالات رمزية موحية هي هواجس الوطن بكل أبعاده المجردة والمحسوسة، الوطن بما هو الملاذ وعناصر الطبيعة المحيطة، الوطن بما هو حياة مشبعة بالحنين والآمال والفقد والوجع إزاء المكان الأول، فالشاعر إبن الصحراء، والصحراء وطن فسيح كما الجبال والشجر والهواء ومخلوقات الله التي تحيا ليحيا الوطن.
الحمامة الباكية بعد مخاطبة الطلح تتوسل أيضا للريح:
كانت تمدّ جناحها للريح وقتئذ
أن تستحيل الشمس فوق جناحها طفلاٌ،
فتحمله وتدخله في الغمامة.
الحمامة قصيدة تُناجي عناصر الطبيعة، مُخاطِبة إياها بأُلفة وحميمية، الحمامة/ القصيدة تناجي الوطن عبر عناصره المبسوطة على الأرض، وعبرهم تناجي الذات الموجوعة بالنُوستالجيا، مخاطبة الطبيعة هي مخاطبة الأحلام المُشرعة.أحلام شاعر بالتحليق عاليا في فضاءات التعبير المتسامي، المُنطلق من تراب الإنتماء والمغمور بنُشدان الصفاء، أليس الكمال مطلب بشري، وحدها القصيدة تحققه بالأحلام التي لا تشبه أحلام النوام، أحلام الشاعر قصائد مُترعة بجماليات القول.
في قصيدة «زيارة» (من ديوان يحمل نفس الاسم) نقرأ هذا المقطع الجميل:
من هاهنا.. نهر الطفولة مر
هذي سدرة الجيران تسدل ظل خضرتها على
الجدران
وضممت لي من سدرها ما يملأ الكفين..
ثم شممته..
النوستالجيا محمومة، الحنين إلى مرتع الصبا، إلى الأشياء العزيزة على قلب الطفل الذي كانه ومازال الطفل في قلب الشاعر وذاكرته يلعب ببراءة وسعادة، الطفولة تسعد بالحياة أيَّما سعادة، وهي خير من يتذوق حلاوتها قياساً إلى الكهولة والشيخوخة. السدرة هذه الشجرة وارفة الظلال، سلة غذاء وأسباب شفاء، لها دوربيئي وجمالي مفيد، هي الفيء والثمار الحلوة المذاق والرائحة الطيبة وهي كما تقدم علاج للروح والبدن. فالشاعر يستعيد الطفولة بماهي نهرٌ يجري، مُستحضرا شجرة الجيران الطيبين والإخضرار الجميل، كل شيء جميل يعبر الذاكرة متخما بالحنين والشوق، الجيرة والسدرة.. وكل عناصر البهجة والسرور والإنطلاق في رحابة الحياة الخضرة الحلوة.
ترويض الإيقاع في أفق حداثي
في تجربة شاعرنا ثمة تنويعات جديدة في الأغراض الشعرية (الرثاء) في قالب حداثي لا يتخلّى عن التفعيلات الحرّة، كما لا يُضحِّي تماما برنين القوافي في كثير من نصوصه، إنما ذلك رهين بطبيعة مادة النص في جنينيته، نجد نصّاً تتطلب بنيته إيقاعا خارجيا ما وآخر يجري مجرى النهر مكتفيا بدفقه الإنفعالي الصوري المحتشد ناسجا إيقاعا داخليا نفسيا.
تنويعات الكتابة الشعرية لدى الصيخان حداثية المعنى والمبنى تتغيّا التعبيرعن الحالات الشعورية واللاشعورية التي تعتمل في دخيلته كما تعتمل في دواخل الناس مع فارق أساسي مفاده ما يعتمل في الذوات الشاعرة أعمق، الإنسان كتلة مشاعرمتناقضة.. تارة فرحٌ وتارة أخرى ترحٌ وما بينهما هدوء أو مشاعر مختلطة وفق إيقاع الحياة.. فالقصيدة «الصيخانية» تسير على إيقاع الوقائع الحياتية وتناسبه بإيقاع الأوزان والقوافي، شاعر كتب القصيدة العمودية بنظام الشطرين وله القدرة على ذلك، بيد أن هاجسه كتابة روح الشعر بصدق جواني يساير المناخ الحياتي المعاصر بدون تفريط في جوهر الأصالة، لهذا يحضر شكل الكتابة مستجيبا لذائقته وإنفعالاته وتصوره الذهني لمآلات النص، فهو يحتفي بالبنية الإيقاعية المتطورة في الأفق الحداثي مدمجاً لها في مختبره الإبداعي المجدد في جماليات التراث، مثلا في ثيمة الصحراء والقوافل إحتفاء وإعتزاز بالبيئة العربية وبأعراف القبائل والعادات الحميدة التي تُرسخ خصال العرب الأصيلة التي لن يستطيع نمط الإستهلاك المعاصر التي يجتاح عالم اليوم ان يطفئ جذوتها، وفي الآن ذاته يُصوِّرتبدلات الناس والأحوال والطبائع.. بصدقية، الشاعر يحتفي بالخصوصية في أرقى مظاهرها، لكن الوفاء لجوهر الخصوصية لايعارض أسلوبية القول التي تشي بالغموض، إلا أنه غموض له وظيفته في بناء النص وحشد دلالاته كما يحشد جمالياته التصويرية.
** **
رشيد أزروال - كاتب مغربي