هل الذين يعايشون الموت دون وجل قبل موتهم بفترة هم الذين ماتت فيهم بعض أجزائهم؟
اليوم لم يمت لوحده ذاك الجميل في القلب والوجه الدكتور أسعد بشية، بل مات معه جزء مني كبير، ودفنتهما اليوم في مقبرة السيدة خديجة بالمعلاة، التي أصبحت على مرمى حجر من المسجد الحرام.
لم يكن ذاك الصباح الذي التقيته في الثمانينيات الميلادية صباحا مكروراً. بل كان مزاوجة أحلام وطموح لقصص متجمعة بحياة نهضت فجأة في جبال السراة. التقيت رجلا يتباسط إليه جمال الأشياء، وكأنه يقتنص الضوء ليغزله طموحاً في كل الأودية.
وأنا المحمول على نتوءات تركض بضجر من عروق الشجر إلى فتافيت الصخر.
لا أعرف إن كان حمّلني مياه الغدير لأعجن بها مناهل الأدب، أو حمّلته النيازك ليغزل بها الألوان السبعة.
اليوم لم تعد جدة تشرب الشوكولا لتبهج الزائرين، ولم يعد السمر ينمو ليغدو فعالية أخرى للظفير والباحة.
اليوم أطفأ صديقي شعلة أولمبياد الوصف الساحر لجمال الأصدقاء. وضرب عرض الحائط بكل الأوهام والأخبار ومباهج الفنادق وشوارع الشمال، هنا في مكة المكرمة حيث يرقد الفارس المتسع صدره كبحر، تنثر القاهرة آخر حلة لبستها في عيد الميلاد، لم يعد الدكتور إبراهيم شرف يتربع على منصة جامعة القاهرة. ونسيت بيروت وأثينا وباريس ذاكرتها على منامات لم يعد أسعد في بؤرتها راكضاً كفنار.
في تلك الزاوية من المقبرة دفنت ما يربو على أربعين عاماً كان هو الفائز بسباق أخذها معه.
في آخر زيارتي له قبل ساعات من أدائه التحية للدنيا مستقبلاً الآخرة ببصمة شهادة التوحيد، أشار لي بيديه حيث لم تسعفه حنجرته، يقول وهو بكامل وعيه أنا في صالة المغادرة إلى رب السماء والأرض، ولن تتمكن من رؤيتي حيا بعد اليوم. أقسم لقد سمعت يديه هما اللتان قالتا، وأقسم أنه كان بكامل وعيه.
كم تبقى مني لأظل أحكي.
** **
- أحمد الشدوي