منذ القرن الثامن عشر، تأثرت ألمانيا بالفكر النقدي، خاصة بعد صدور كتاب إيمانويل كانط «نقد ملكة الحكم» (1790م)، الذي أطلق موجة من الإنتاج الفكري حول فن الشعر وعلم الجمال. انشغل الفلاسفة الكبار مثل كانط وهيجل وشلينج وشوبنهاور بمسائل الجماليات، بينما ساهم الشعراء ومؤرخو الأدب في تطوير هذه الأفكار وتعديلها، مما أدى إلى اندماج الحركة التاريخية بالحركة الجمالية. وهكذا، كُتب التاريخ وفق مبادئ نقدية وجمالية، إذ رأى الباحث رينيه ويليك أن الأدب والنظرية الأدبية والنقد مرتبطة بعلم الجمال. حتى علماء الجمال الأكثر تجريدًا ناقشوا قضايا جوهرية في نظرية الأدب، مثل موقع الأدب بين الفنون، وطبيعة الشعر، ووظيفة الفن. اهتم الجماليون الألمان كذلك بمسألة الأجناس الشعرية، مما أدى إلى انتقال علم الجمال بسهولة إلى مجال فن الشعر، وربطته بأسئلة فلسفة التاريخ والنقد الأدبي.
اهتم الكلاسيكيون بالمبادئ الأخلاقية في الأدب، كما دعا إليها أرسطو بشكل غير مباشر، حيث رأوا أن الأدب يجب أن يتناول موضوعات صالحة لكل زمان ومكان دون المساس بالنظم السائدة. ونتيجة لذلك، اتسم الأدب الكلاسيكي بالمحافظة والجمود، إذ لم يكن يُنظر إلى النظم المستقرة على أنها قابلة للتطوير. لكن مع أواخر العصر الكلاسيكي، بدأت الفلسفة الجمالية تمهد الطريق للثورة الرومانسية، التي على الرغم من طابعها الحالم، أسست للنزعة الواقعية وطرحت مقاربة مثالية جديدة للفن، كما دعا إليها كانط.
كان للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804م) تأثيرٌ بالغ في الفلسفة المثالية للفن، وكان لفكره صدى واسع في الأدب والنقد الأوروبي والأمريكي. عارض كانط الفلاسفة العقليين الذين اعتمدوا على المنطق الجاف، ودعا إلى الاعتداد بكل إنسان بوصفه غاية في ذاته. في القسم الأول من كتابه «نقد ملكة الحكم»، ميّز كانط بين الحكم الجمالي والحكم العقلي والحكم الأخلاقي من خلال أربعة معايير: المصدر والصفة، الكم والعموم، العلاقة، والذاتية والموضوعية. كما رأى أن الحكم يمكن أن يكون تقريرًا لحقيقة بناءً على تجربة، أو برهنة على قضية علمية، أو احتمالاً منطقيًا.
طرح كانط فلسفة تفصل بين المعرفة العقلية والحكم الجمالي، وأعطت الأهمية المطلقة للشكل، متحررةً بذلك من القيود الفلسفية والنقدية الأرسطية. كانت دعوته تهدف إلى تحرير الفن والأدب من أي قيود خارجية قد تعيق الخيال، فلم يقتصر على التركيز على الجمال والشكل، بل شدد على استقلالية الفن وصدقه، معتبرًا أن قوة التعبير الصادق والأصالة الفنية هي جوهر الفن، وليس القضايا الاجتماعية أو الأخلاقية كما رأى أفلاطون وأرسطو. أثرت فلسفة كانط في دعاة الفن للرمزيين الفرنسيين، وامتد تأثيره إلى فلسفات الحداثة.
كان الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984م) أحد أبرز المفكرين الذين تأثروا بفكر كانط النقدي. اهتم فوكو بمفهوم الخطاب والسلطة، موضحًا العلاقة بين المعرفة والقوة وهيمنة المجتمع. ورأى أن الخطاب في القرن التاسع عشر كان خطاب الإنسان بامتياز، وهو صدى لمبدأ كانط في الاعتداد بكل فرد بوصفه غاية في ذاته. وكما عارض كانط العقلانية الجافة، ناهض فوكو الفلسفة الغربية التقليدية وتقسيماتها الثنائية، وسعى إلى تقويض الأوهام الفلسفية عبر تفكيك مفاهيم السلطة والمعرفة.
في كتابه «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» (1961م)، تناول فوكو مفهوم الجنون، موضحًا أن امتلاك حرية العقل والسلطة أدى إلى إسكات صوت الجنون. رأى فوكو أن العقل فرض نظامًا يقصي الأصوات المختلفة، مما أدى إلى تغييب الحقيقة. كما أشار إلى أن المجانين في القرن الثامن عشر كانوا يُنظر إليهم كمقابل للعقل، لكن السلطة والمراقبة الاجتماعية أدت إلى عزلهم، مثلما حدث مع المجذومين في القرن الخامس عشر. ومع تراجع الجذام، حلّ المجانين محلهم، واستُبدلت العزلة القديمة بالسجون الحديثة، حيث أصبحت السلطة تُمارَس بطرق أكثر تعقيدًا.
انطلق فوكو من مفهوم «فلسفة السلطة»، الذي استلهمه جزئيًا من كانط، ليبين كيف أن كل عصر ينتج خطابه المهيمن، الذي يحدد معاييره ويشكل رؤيته للعالم. وهكذا، أصبح الخطاب و(اللغة) ليست مجرد أداة للتواصل حسب وصفه، بل هي أيضاً أداة للسيطرة ولتنظيم المجتمع وإنتاج الحقيقة، مما يجعل السلطة والمعرفة متداخلتين بشكل لا يمكن فصله.
** **
- هياء الشريف