لماذا فازت رواية «كل الرجال لا يعيشون في هذا العالَم بنفس الطريقة» للروائي الفرنسي دوبوا على جائزة جونكور؟
لماذا فازت رواية «كل الرجال لا يعيشون في هذا العالَم بنفس الطريقة» للروائي الفرنسي دوبوا بجائزة جونكور؟
رواية «كل الرجال لا يعيشون في هذا العالَم بنفس الطريقة» الحائزة على جائزة جونكور، تأليف الروائي جون بول دوبوا الذي ولد عام 1950 بمدينة تولوز الفرنسية ويقيم بها في الوقت الحالي. يعدّ السيد دوبوا من أشهر الصحفيين في فرنسا، حيث بدأ عمله المهني كصحفي رياضي في صحيفة «سود وست» الفرنسية، ثم في صحيفة «ماتان دو باريس»، حتى أصبح كاتباً مرموقاً في مجلة «لونوفل أوبسيرفاتور» الفرنسية .من أشهر أعماله «أمريكا تقلقني 1996»
في هذه الرواية يتحدث الراوي بول هانسن عن الحياة التي عاشها قبل دخوله السجن وعن رغبته في التمرّد ضد جميع أشكال الظلم، وعن الأسباب التي جعلته يدخل السجن ليعيش هناك لمدة عامين في طيات وبين ثنايا هذا العالَم المظلم الظالم الكئيب بأسواره العالية وفضائه الذي يلفه الأحزان وحريته المكبلة بأساوِر من القهر. تُبيِّن لنا صفحات هذه الرواية جملة من المعاني الإنسانية بما تحتويه من تباينات.
من هنا يأتي جمال السرد وبلاغة العبارة عند الحديث عن المكان أي السجن، بمدلولاته النفسية، وارتباطه بالجانب الزمني.
يشارك بول هانسن في هذا الفضاء المغلق سجين آخر اسمه باتريك هورتون الذي وَشَمَ سيرته الحياتية على جِلد ظهْره ووَشَم قصة هارلي-ديفيدسون على كتفيه وصدره. هذا الفضاء المغلق لا يحبه بول هانسن، إنه يذكِّره بزملائه وعددهم 1357 سجين، ويذكِّره بمن تم إعدامهم شنقا عام 1962 وعددهم 82.
في هذا الفضاء الضيّق، تتعرّض روايتنا لنمطين من الكائنات أولهما بَشَري وهو الراوي بول هانسن الذي دائما ما يتحدث مع الموتى، وثانيهما حيواني وهي الكلبة نوك التي تعرف وتفهم كل شيء ولهذا تُعتبر الشخصية الرئيسية في الرواية.
سِجْن ريفيير
لا يزال الثلج يتساقطُ منذ أسبوع، اقتَرَبْتُ من النافذة وجَعلتُ أنظرُ في الليل، استرعي انتباهي رطوبة الجو، هنا مصدر الضجيج، إنه ضجيج من نوع خاص لا يبعث على السرور، ثَمَّة ما يحمل على الاعتقاد بأن البناءَ قد أحاطه الثلج من كل مكان، أَنِين التّوجُّع ينبعث من بين ثناياه، لطالما كانت هناك معاناة وآلام من شدّة التّوجّع تَقرَع كالطبل. في هذه الساعة، كان نزلاء السّجن نائمين، سيتعوّدون على ما بالسّجن من تغيرات مع مرور الوقت، يمكننا أن نستمع إلى أَحَدِهِم وهو يتنفس في الظلام كالحيوان الكبير، أحيانا عندما يأخذه السُّعال يتجرّع ما يصل إلى جوفه. ها هو السّجن يبتلعنا، يجعلنا كطعام مهضوم، إننا نتقوقع في أحشائه، نختبئ بين أركان حُجراته المرقَّمة، إننا نشعر بآلام متكررة في المعدة تجعلنا ننام ونستيقظ قدْر الاستطاعة.
إن سجن مونتريال، المعروف باسم سجن بوردو والذي تم بناؤه على الأراضي القديمة في الحيّ المُسمى باسمه، يقع عند رقم 800 في شارع جوين أويست على حافَّة نهر دي برايري. يضم السّجن 1357سجينا مِن بينهم 82 متّهما تم إعدامهم شنقا حتى عام 1962. فيما مضى، قبل تشييد هذا العالَم الذي تتقيَّد فيه الحركة، كان من المفترض أن يكون هذا المكان واحة خضراء بما تحتويه من أشجار البتولا والقَيقب والسُمّاق القرني إلى جانب العشب الطويل الذي ينعطف بعضه على بعض عندما تتمرَّغ فيه الحيوانات البريَّة. واليوم، الفئران والجرذان هي فقط من بقي على قيد الحياة من بين هذه الحيوانات، وبما أن طبائعها لا تسترعي الانتباه إلى حد ما، فقد عاودوا الانتشار في ذلك العالَم السِّري الذي يتسبَّب في هذه المعاناة داخل السّجن.
يبدو أنهم يتأقلمون تمامًا مع هذا السّجن كما أنهم يتوسّعون في بناء مستعمراتهم في كل أجنحة المباني. في الليل، يمكن أن نسمع بوضوح القوارض وهي تتحرك في الزنازين والممرات، ولسد الطريق عليهم، نعمل على وضع الصحف المطويّة والملابس القديمة تحت الأبواب أو أمام فتحات التهوية، لكن لا فائدة مما يحدث، إنهم يمرّون ويتدحرجون ويتسلّلون ويفعلون ما يريدون.
هذا النوع من الزنازين التي أعيش فيها يمكن أن يُطلق عليها المأوى الخاص أو المسكن، إذ إن إسقاط هذا المصطلح الساخر على هذا الفضاء يعني أن هذا المكان عبارة عن مساحة تزيد قليلا عن الأنموذج القياسي الذي يسمح بضغط ما تبقى لنا من إنسانية في حوالي 6 أمتار مربع.
تشتمل الزنزانة على سريرين يعلو أحدهما الآخر ونافذتين ومقعدين مثبّتين بالأرض ولوحين وحوْض الغُسل والمرحاض.
إنني أُشارك باتريك هورتون هذه الحظيرة المُغلقة،إنه رجل ضخم عظيم الجِسْمِ، وَشَمَ على ظهره قصة حياته –الحياة قاسية ولهذا سنموت- كما أنه وَشَمَ أيضا على كتفيه العريضتين ومقدمة صدره قصة حبه لهارلي ديفيدسون، إنه في انتظار محاكمته بعد مقتل أحد أعضاء عصابة هيلز أنجيل التابعة لفرع مونتريال، حيث أطلق أصدقاؤه النار عليه لاشتباههم في أنه يتعاون مع الشرطة.
وُجِّه إلى باتريك الاتهام باشتراكه في جريمة القتل هذه، وبالنظر إلى أفعاله التي بلغت أبعادا مثيرة للذعر والى انتمائه لمافيا عصابات الدراجات النارية المعروف عنها ارتكابها لجرائم القتل والاغتيالات طبقا لما هو مدوَّن في سجلاتها، فإنّ الجميع يتجنّبون باتريك هورتون احتراما له إذ إنهم يعتبرونه مثل الكاردينال عندما يسير ببطء بين ممرات القطاع رقم باء. ولأنه عُرِف عني أنني أشاركه زنزانته الخاصة، فإنني أتمتّع نتيجة لهذا الجِوار بنفس الاحترام الذي يتمتّع به هذا الكاهن الغريب.
مرّت ليلتان ولا يزال باتريك يئِنّ أثناء نومه، إنه يعاني من ألم في الضّرس ويشعر بانتفاخ يماثل الدُّمل، لقد تقدّم بشكوى عدة مرات إلى الحارس بسبب هذا الألم، وبناء عليه قدَّم له الحارس دواء مُسكِّنا للألم، وعندما سألت الحارس لماذا لا يتم وضع باتريك على قائمة انتظار طبيب الأسنان، قال لي: «لا. إذا كان لديك ضرس يؤلمك، فهنا هؤلاء الأشقياء لا يعالجون هذا الضّرس، إنهم يقومون بخلعه، وإذا كنت تعاني من ألم في ضرسين اثنين، فكما قلت آنفا، سيقومون بخلعهما الاثنين.»
إننا نعيش سويا منذ تسعة أشهر ولا تزال الأمور تسير بشكل طيب إلى حد ما، إننا ننتمي إلى فئة تتمتع بمصير مشترك غير واقعي جعلنا نصل إلى هذا المكان في نفس الوقت تقريبًا، على جناح السرعة، أراد باتريك أن يعرف مَن سيشاركه استعمال المرحاض الخاص به كل يوم، لهذا قصصت عليه حكايتي التي تختلف عن تلك التي تدور حول عصابة هيلز التي تُسيطر على كافة عمليات الاتِّجار بالمخدرات في الإقليم والتي لم تتردد في شن حروب شعواء كتلك التي أدّت إلى مقتل 160 شخصًا في كيبيك بين عام 1994 وعام 2002 عندما واجهت أعداءها القدامى ضمن عصابة روك ماشين التي انضمت إلى عصابة بانديدوس والتي بدورها لم تستغل اسم عصابة روك ماشين على الرغم من الظروف السيئة التي مرّت بها منذ اكتشاف ثماني جثث تنتمي جميعها لأفراد العصابة حيث تم وضعها بلا اكتراث داخل أربع سيارات مصفوفات إلى جوار بعضها البعض وقد تم تسجيلها تبعا لإقليم أونتاريو.
عندما علِم باتريك السبب الذي من أجله سُجنْت، أصبح مهتمًا بسماع قصتي بآذان صاغية مثل ما يفعل أعضاء عصابةٍ يتعلمون أولى محاولاتهم المهنيّة الخرقاء، عندما انتهيت من سرد قصتي المتواضعة، كان باتريك يحكّ شحمة أذنه اليمنى المتقّرّحة بسبب التهاب في الجلد جعلها تميل إلى الحُمرَة.
بالنظر إلى وضعك الحالي، فأنا لا أعتقد أنك تستطيع فعل شيء من هذا القبيل، أأنت الذي فعلت هذا الأمرحقا، نعم أُأَكّد لك أنا الذي قتلته.
ربما كان الأمر بعد كل ما كنت أرغب القيام به يتعلق، وفقا للشهود، بالفعل الذي عزمت يقينا على ارتكابه لو لم يتكاتف ستة أشخاص أقوياء بغرض السيطرة عليّ. في الواقع، بصرف النظر عن الذي قيل لي فأنا لا أحتفظ في ذاكرتي سوى ببعض التخيلات المرتبطة بالحادث نفسه ويبدو أن عقلي قد فضّل الخيار الانتقائي قبل أن أفيق في قِسم وحدة الطوارئ.
لسوء الحظ، نعم كِدت أن أقتل هذا الشقي، إن هؤلاء الرجال يجب تقطيعهم إربا إربا. ها هي أصابعه تعبث على الدوام بأذنه الملتهبة، يبدو أنه يشعر بعدم الاتزان بشكل كبير، لقد وقع باتريك هورتون فريسة لغضب يصعب تلمّس معالمه، وبدا عليه استعداده لتسلّق الأسوار للفراغ من العمل الذي شرعت في إتمامه بطريقة ما ولم ينته على الوجه الأكمل، وبينما هو يصرخ ويحك جلده الملتهب، عندئذ جعلت أفكّر في هذا المفهوم الذي صاغه عالِم الأنثروبولوجيا سيرج بوشار المتخصص في ثقافات الشعوب الأصليين: «الإنسان الأخرق ستنقلب حياته رأسا على عقب.»
إن زوجتي وينونا تنتمي إلى العِرق الهندي الألجونكويني ، لهذا فأنا أقرأ كثيرا ما يكتبه بوشار لأتعلّم من زوجتي. في هذه الأثناء لم أكن سوى ذلك الفرنسي الذي يتصرف بلا رَويَّة ويجهل تقريبا كل ما يتعلق بتلك الطقوس المزلزلة وبالقواعد الغامضة لتعريق الجسد وبالأسطورة التي تحكي عن حيوان الراكون وبالمنطق ما قبل الدارويني الذي يقول إن «الإنسان والدب ينحدران من أصل واحد» وبالحكاية الذي تقول لماذا فقط توجد منطقة بيضاء أسفل فم حيوان الكاريبو.
في ذلك الوقت، لم يكن السجن بالنسبة إليّ سوى ذلك المفهوم النظري، كما أنه لم يكن سوى تصرف سيئ أثناء لعبة الحظ التي تضطرك إلى البقاء منزوياً داخل سجون لعبة مونوبولي.
يبدو أن هذا العالَم الزائف الذي يتَّسم بالبراءة مؤهل لأن يكون على هذا النحو إلى مالا نهاية، كذلك كان أبي، جوهانس هانسن راعي الأبرِشيَّة ، مهتما بجعل قلوب الرجال تهتّز ومُنهمِكا في الضغط على مضخمات إنتاج أصوات آلة الأورجان أثناء الصلوات الخاصة بالأبرِشيَّة البروتستانتية والتي يتطاير داخلها فُتات الاسبست الصخري المقدس في كل مكان، كذلك أيضا كانت وينونا ماباتشي ذات الأصول الألجونكوينية العريقة تقود سيارتها من طراز بيافير بسرعة مبالغ فيها عند المنعطفات من أجل سهولة نقل الزبائن بأمتعتهم بشكل تدريجيّ على امتداد البحيرات الشمالية، وكذلك أيضا لم يمض وقت قصير حتى تمكّنت كلبتي نوك من أن تضع مولودتها بصعوبة وبدا أنها تنظر إليّ بعينيها السوداوين الكبيرتين على أنني بداية ونهاية كل شيء.
نعم، لقد كنت أحب هذا الزمن البعيد جدا حيث كان الأشخاص الثلاثة الذين قتلتهم لا يزالون على قيد الحياة.
أحاول كثيرا الخلود إلى النوم، كم أتمنى ألا أستمع إلى أصوات الفئران، وألا أشتّم رائحة الرجال، وألا أسمع صوت المطر في فصل الشتاء عبْر النافذة، وألا أُجبَر على تناول الدجاج الذي يميل إلى اللون الداكن نتيجة لطهيه في بقايا ماء غسيل الأواني، وألا أُكرَه على مواجهة خطر تعرُّضي للضرب المفضي إلى الموت بسبب كلمة خشنة أقولها أوكمية قليلة من التبغ أحملها، وألا أكون مضطرًّا للتبوِّل في حوْض الغُسل لأنه بعد ساعة معينة لن يكون لدينا الحق في استعمال صندوق الطَّرد، وألا أرى باتريك هورتون وهو يخلع ملابسه في كل ليلة ويجلس على غطاء مقعد المرحاض من أجل أن يتغوَّط وهو يحكي لي عن أذرع التوصيل المتشابكة في درّاجته النارية التي تهتّز عندما يتحرك ببطء كما لو أنها كانت ترتجف من شدة البرد، وفي كل مرة يقضي فيها حاجته، أجده طَلْق المُحيَّا عندما يخاطبني وقد استرخت به حاله بشكل يثير الريبة مما يدل على أن العلاقة بين فمه وعقله لا تنفصل نهائيا عن اهتمامه بإخراج فضلاته، حتى إنه لا يحاول أن يبذل جهده في مقاومة إطلاق غازات أمعائه.
** **
- د. أيمن منير