لعل الحديث عن التراث عسر المسلك بطبيعته، وشديد النفرة والجموح على وعي متحدثة ومتلقيه، ويحتاج إلى تبسيطه قوة أدبية غلّابة تروّض من هذا الظبي المذعور والمدعو بالتراث.
وأعي تماماً خطورة هذا النفق إذ إنَّ الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين» حذّر من فتنة القول، وعلى ذلك فهذا المقال لا يصب في جانب الداعين لمحو التراث أو في جانب المتمسكين به، بل هو تجديدٌ لما ورد فيه من قصاصات حقيقيةٍ أو من وحي الخيال.
وَيُحْكَى في ذلك عن حورية تُدْعَى عين الحياة، وهي ابنة ملك البحر كما يُرْوَى، وقد وقعت في حب صياد سمكٍ اسمه «ليل»، فكان «ليل» كلما اصطاد السمك يفكر في عين الحياة، ويقال بأنها كانت تغويه ليهرب معها من عالم البر إلى البحر، ولم يكف ليل عن رواياته المتكررة لأخيه عن عين الحياة، فكان يحذره دوماً على ألا ينصاع وراء غوايتها، فلما استيقظ الأخ الناصح في يومٍ من الأيام ولم يجد أخاه، فرّ راكضاً إلى البحر ينادي قائلاً يا «ليل يا عين»، ومن هنا خرجت لنا الأغنية الشهيرة «يا عين يا ليل».
والتراث لا يقبع فقط في هذه القصص، بل هو مستشرٍ في كل المجتمعات، الحديث منها والقديم، والقادم منها والبائد، وهنا يكمن الذكاء في التعامل مع التراث، فتاريخ البحارة هو تاريخ الرجال كما يُرْوَى، وكلما ضاع بحارٌ في الأزمنة الغابرة قالوا بأن حورية ما أغوته وذهب وراءها، ولكن هنا الاستثمار الصحيح في تحويل «القصة» إلى «فن»، فالمنهاج السليم يكمن في تطوير التراث واستعماله، لا بقاؤه وتحنيطه، وتحنيط عقولنا معه.
فالتراث كونه الإطار المرجعي للعقلية العربية، واقع لا يجب تركه والتخلي عنه أو حتى التمسك فيه، بل يستوجب التطوير ليتماشى مع مجريات عالم اليوم، فليس من العقل في شيء أن نمحو عالم اليوم من أجل عالم أمس، ففي ذلك تراجع وفي عكسه تدهور.
وأعلم تماماً بأن الإطار المرجعي ثقافي في الغالب إطار لا شعوري، له تموضعات وفروع، وسيوف ودروع، ومما لا شك فيه بأن هذه المعارك الخلافية ما بين الإمساك والتسريح قائمة على هذا الامتياز النسبي إلا شعوري للمرجعية كانت عامةً أو حتى أخلاقية.
ومن هذا المنطلق ومن دون التعدي البالغ على الأطر المرجعية، لنقم بإعادة تدوير التراث، كي يخدمنا ليس فقط في الشكل، بل حتى في التطبيق، ولكي يتجاوز معنا النمط الذي يعيش في الروح متجهاً نحو المادة.
** **
علي أبو الملح - روائي كويتي