الثقافية - علي بن سعد القحطاني:
نواصل في هذا الجزء الثاني نقاشا حول «ظاهرة الرواية اليتيمة عند الكاتبات السعوديات» وهي من الظواهر الأدبية اللافتة للنظر في المشهد الثقافي السعودي اكتفاء المبدعات السعوديات بالرواية الواحدة، وهي تشابه القصائد اليتيمات التي يكتفي بقولها الشعراء في عصور الأدب العربي ،إما للاكتفاء بجودة العمل الأول،والنجاح الذي حققته الرواية الأولى، والخوف من عدم تقديم رواية أخرى بالمستوى المأمول أو انشغالهن عن الكتابة الروائية بالدراسات العليا أو العمل والحياة الأسرية، وتكثر الالتزامات لديهن ومشتتات الحياة أو لاصطدام بعض الروائيات بالسوق الثقافي وتجاهل النقاد لكتابتهن وتكدس النسخ المطبوعة من الروايات في المستودعات والمخازن وللوقوف على أبعاد وتفاصيل هذا الموضوع نستكمل المناقشة حول هذه الظاهرة مع عدد من المهتمين بهذا الشأن.
الكتابة التجريبية
في البداية أدلى الروائي خالد اليوسف والراصد الببليوجرافي والمعلوماتي للروايات والإبداعات السعودية منذ أكثر من خمسة عقود برأيه في هذه القضية، وتناول « الرواية اليتيمة « عند الروائيين السعوديين، وقال: بدأت الرواية السعودية برواية «التوأمان»لعبد القدوس الأنصاري منذ فترة الأربعينيات الميلادية، جاء أول روائي سعودي واستطاع أن يتجاوز هذه الرواية الواحدة التي حكمت عليها ظروف فنية وكتابية تجريبية، وجاء إبراهيم الناصر الحميدان واستطاع أن ينجز عددا من الروايات ثماني روايات، واستمرت الرواية رواية واحدة لكل كاتب وأيضا تحكمها ظروف فنية وكتابية، وانطلقت في تلك الفترة سميرة خاشقجي سميرة بنت الجزيرة لأنها أأصدرت فيما بعد عددا من الروايات وحتى اعتقد وصلنا إلى مرحلة الثمانينيات الميلادية إذا تذكرنا عددا من الأسماء الذين تجاوزوا الرواية الواحدة.
(عبدالعزيز مشري في فترة الثمانينيات، عبدالله جفري، عبدالله سعيد جمعان) ونتذكر علي الدميني الذي كتب رواية واحدة «في الغيمة الرصاصية « وجاء غازي القصيبي في التسعينيات، وأصدر عددا من الروايات وعبده خال كذلك أصدر عددا من الروايات وغيرهم من الأسماء، ومعظم من أتى من جيل بعد الألفين الميلادي أعتقد أنهم تجاوزوا أكثر من رواية، وهناك من الروائيين السعوديين والروائيات أيضا من أصبح له أكثر من عشرين رواية والتجربة الروائية تتطلب تفرغا تاما.
الرواية الواحدة والإحباطات المتكررة
وترى الروائية رجاء أبو علي في مداخلتها لـ»الثقافية» حول اكتفاء بعض الروائيات السعوديات بروايتها الأولى، وتقول إنَّ الساحة الأدبية تشهد أعمالًا وحيدة، تنقسم إلى نوعين: الأول: وحيدة في جنسها الأدبي كرواية واحدة بين إصدارات من أجناس أخرى، كرواية « أضياع والنور يبهر « للروائية صفية بغدادي، و» أحلام خادعة « للروائية إلهام محمد بكر، وحيث اتجهت بغدادي بعد روايتها الوحيدة إلى تأليف الكتب، سلكت الأخرى مسلك الشعر والقصة القصيرة.
والنوع الثاني: هو العمل الروائي الأوحد في تجربة الكاتب، وبعدها خروجه من الساحة الثقافية كما حدث مع الروائية رجاء الصانع في روايتها « بنات الرياض « وهنا يمكننا تسميتها بالرواية اليتيمة، لعدم وجود أي أعمال متصلة بتجربة مؤلفها. وعليه تتعدد الأسباب لهذه الظاهرة؛ وكما أعتقد شخصيًا بأن لكل روائي أسبابه الخاصة، جدير بالجمهور معرفتها بتصريحات منه ليتمكن الباحث من حصر الأسباب بطريقة علمية مؤكدة. غير أني كعضو في هذا المشهد الهائل، يمكنني ملاحظة بعض الحالات وتخمين أسبابها؛ ففي النوع الأول؛ وهو ولوج المبدع جنسًا أدبيًا آخر بعد الرواية الأولى، فالأسباب كثيرة؛ منها: عدم نجاح الرواية مما يسبب إحباطًا للمبدع، أو استشعار المبدع نفسه صعوبة هذا الفن الأدبي وعدم قدرته على المواصلة فيه، وفي حالات أخرى عزوف المبدع عن الفن ومجاله ليس لعدم كفاءته، ولكن لأسباب أخرى مؤثرة على نفسية المبدع كحدوث بعض الصدمات والأحداث المحبطة سواء على المستوى الشخصي أو العام مما يتسبب بانكفاء المبدع وابتعاده عن المجال، وقد يكون، بسبب إدراك المبدع قدراته الفنية والكتابية ومدى ملاءمتها للجنس الروائي وغيره، وهذا أمر يحدث للكُتاب الذين يجربون أنفسهم في أكثر من جنس أدبي وغيرها من الأسباب.
أما في النوع الثاني؛ حيث يخرج المبدع من الساحة كليًا بعد روايته الواحدة، فهنا أسباب عديدة أيضًا نذكر منها: أن المبدع دخل الكتابة بغاية واحدة محددة سلفًا، وهي « قول شيء « وهذا ما كشفته الروائية الصانع، فيكون الخروج موضوعيًا ومفهومًا ومُفسرًا. وقد يكون دخولًا لمجرد الكتابة عن الذات وإنجازات السيرة الذاتية، وهنا لا توجد حالة إبداعية قابلة لاستمرار النمو، لأن الكتابة لا تنمو إذا ظلت تدور حول ذاتها، فالأفضل لها فعلًا الخروج. وقد يكون الدخول دخولًا باردًا ظنًا بأن الكتابة عملية سهلة، وأن صناعة الوجود الثقافي أمر في غاية البساطة فعندما يقف المبدع على حلبة الحدث يقرر ما إذا كان الأمر بالنسبة إليه مجديا أم أنه الخروج أجدى.
أما عن استعادة الخارجين عن النص الكتابي، ففي المجمل وكحالة عامة أرى تركهم لخياراتهم وقراراتهم الفردية، فالإنسان مهما عرفه الخارج، سيظل هو الأعرف بنفسه ومدى ملاءمة هذا الميدان لطبيعته وقدراته. فأولًا وأخيرًا؛ لا دفع للبقاء، ولا دفع للخروج، المبدع حرا، وكما أن الخروج محزن ومؤثر، فالبقاء لا يعني أن الأرض معبدة للنجاح، إلا أن يكون كاتبًا فارقًا ووجوده جوهريًا في المكتبة العربية، فهنا لابأس بمحاولات فهم أسباب الانكفاء ومحاولة استعادته لقلب الحدث الثقافي.
الروائية السعودية والحرج الاجتماعي
وكانت خاتمة المداخلات في الظاهرة «الرواية اليتيمة عند الروائيات السعوديات « مع الباحث والمؤلف الأستاذ منيف خضير الضوِّي (صاحب كتاب تاريخ الرواية النسائية السعودية) التي تناولها بشكل مفصل في كتابه وقال:
من المتعارف عليه أن النجاح يغري بنجاح آخر، وفي مجال الرواية يظل نجاح الرواية الأولى دافعاً لإصدار رواية أخرى أو على الأقل سيطرة التفكير في كتابتها…
وفي الأدب الروائي النسائّي السعودّي يبرز اسم الكاتبة والروائية الشهيرة رجاء الصانع التي أصدرت روايتها الوحيدة(بنات الرياض2005م)،وحّققت نجاحًا وجدلاً منقطع النظير، ولكنها توقفت، ولم تصدر رواية أخرى، والحال هذه تنطبق على أكثر من (195) روائية سعودية تقريبا حتى العام 2020م فكلهنّ اكتفين بإصدار روائي وحيد ويتيم رغم النجاح الذي تحقق لبعضهن ، بدءًا من رواية(بسمة من بحيرات الدموع1979م)لعائشة زاهر أحمد، مرورًا برواية (أضياع والنوريبهر؟1986م)لصفية أحمد بغدادي، وصولاً إلى العام2019م2020م وحسبنا أن نتمّثل برواية(من خلالي2019م)لأفنان الغامدي، ورواية (الخوف كالأقدام الحافية والطرقات الخافية 2019م) لنورة محمد بابعير، ورواية(قوس المطر 2019م) لإيمان الغامدي، وغيرها الكثير.
ويبقى السؤال عن السر في أسباب هذه الظاهرة من خلال عدة تساؤلات:
هل هذا التوقف يعكس ضحالة موهبة بعض الروائيات، وضعف نفسها السردي في مجال الرواية، والاكتفاء بما حققته من نجاح الإصدار الأول؟!
أو أن التقاليد والعادات الاجتماعية تفرض نمطاً من الرقابة على البوح النسائي لئلا يُخدش اسم القبيلة أو العائلة تحت مفهوم (العيب الاجتماعي) الذي يرتدي عباءة الرجل؟
وبعضهم يرى تحول بعض الروائيات إلى الكتابة عن فنون أخرى كالشعر أو المسرح أو الكتب المتخصصة، فهل هذا سبب آخر؟
ولا ننسى أيضا انشغال بعض الروائيات بالدراسة أو بالتأليف العلمي والبحوث، فقد يكون ذلك سبباً، ناهيك عن انحسار الطلب على الكتب الورقية في ظل برامج التقنية الحديثة التي تستحوذ على اهتمام هذا الجيل…