الناسُ في اختيار ما يقرؤون مذاهبٌ ، فإذا كنتَ تطربُ للأساليب السهلة والمعاني القريبة ، فإنَّ غيرك ينجذبُ إلى اللغة العالية والفكرة العميقة ، وإنْ كنت ترتاح إلى الخيال والمجاز فإنَّ هناك من يميل إلى الواقع والحقيقة ، وإذا أنت سألتني عن مذهبي ، فإني أحنُّ إلى قراءة نوع آخر من الكتب ، هي تلك التي تتحلى بحسن التصنيف وتتوشح بجمال التفريع وبراعة التبويب.
أما لماذا أميلُ إلى الكتب حَسَنة التصنيف أكثر من ميلي إلى غيرها ، فلأن ذلك مما ترتاح إليه نفسي وتطمئن له روحي ، فطبيعتي وسجيتي مجبولة على هذا ، وهي طبيعة متقبَّلة –فيما أحسب- ليست بغريبة ولا شاذة ، أوَلم تنظر في كتاب الله تعالى ، كيف أحْسَن تقسيمَه وأحكَمَ ترتيبَه بوضع السُّور في مواضعها المناسبة ، وما يشكُّ أحد أن ذلك مقصودٌ لحكمةٍ بالغة كامنة ، لذلك فقد تفضَّل الإمام برهان الدين البقاعي على العِلم حين استخرج تلك الحكمة الكامنة فألف كتابه المسمى نظم الدرر في تناسب الآيات والسُّوَر.
ثم ألم تنظر فيما قاله المحدّثون ، وما نقله السيوطي في تدريب الراوي من أن المغاربة كانوا يقدمون صحيح مسلم على صحيح البخاري ، لا لكون الأول أصحّ حديثا من الثاني ، وإنما لما امتاز به الأول من حسن التصنيف وجودة الترتيب.
وفي حقل اللغة تُطلُّ علينا مؤلفات ابن جني ، وهي ذات لغة باذخة ، لا يصبر على مواصلة القراءة فيها إلا من تمرّن على أساليب العرب الفصحاء، ولا أخفيكم أني أنجذب إلى ابن جني لا لأسلوبه –مع ما فيه من جمال- وإنما للدعاية التي يجعلها في فصول كُتبه ،فإنه يُحسن وضع الأبواب لها ، ويجتهد في نحت العناوين أعلاها ، وإذا لم تُصدِّق ما أقوله لك فاذهب إلى كتابه الخصائص ، وطالعه ، فسترى أنَّ «الصبحَ قد أسفر لذي عينين».
وفي بساتين الأدب نقرأُ أنَّ أبا عبيد الله المرزباني كان أحسن تصنيفًا من الجاحظ ، وما ذاك إلا لأنَّ المرزباني مولعٌ بترتيب كتبه وتنسيقها ، بخلاف الجاحظ الذي كان مهووسًا بالاستطراد ، غير محتفل بحسن التبويب أو الترتيب ، فإنه –كما يقول عبد السلام هارون- «لا يتقيد بنظامٍ محكمٍ يترسّمه ، ولا يلتزم نهجا مستقيما يحذوه».
إنّ تقديم المرزباني على الجاحظ ليس لحُسن البيان ولا لروعة الأسلوب ، فإن الجاحظ أعلى كعبا وأطول قامة في هذا المجال ، وإنما قُدّم لجمال تصنيفه وحسن ترتيبه.
وفي رياض المنطق تصادفك كتب الإمام الغزالي وهي مما يُنعت برشاقة التصنيف وأناقة التبويب ، لا سيما كتابيه مِحَك النظر ، ومعيار العلم ، وأرى أن الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى كان عادلًا حين قال في الجزء الأول من ذكرياته: إنَّ «كتّاب العربية خمسة: الجاحظ وأبو حيان التوحيدي والغزالي وابن خلدون وابن عربي». فلعله أراد أنَّ الأول والثاني يطغى عليهما حسن الأسلوب أكثر من أي شيء آخر، وأن الثالث يمتاز بحسن التصنيف ، وأن الرابع يتدثَّر بعمق الفكرة ، وأن الخامس يرنو إلى اللغة المجازية الغارقة في الخيال. وأقول شارحا –مستعيذا بالله من عِناد المخالف- إنَّ كتب الجاحظ والتوحيدي تعلّمك حسن البيان ، وكتب الغزالي تعلمك حسن التصنيف والترتيب ، ومقدمة ابن خلدون تدربك على كيفية اقتناص المعاني العميقة ، وكتب ابن عربي تحلّق بك في سماء الخَيَال.
** **
منصور بن عبدالله المشوح - بريدة