فإنَّ الساحة العلميَّة اليوم تعِجُّ بكثرة مُحقِّقي كُتب التراث الإسلامي، وهذه -لعَمْري- ظاهرة تتهلَّل لها النفس فرحًا؛ لِمَا يحصل في ذلك من نشر التراث العلميِّ الهائل للأُمَّة الإسلامية في شتَّى الفنون، وإخراجه إلى عالم النور؛ لاسِيَّما وأنَّ الكثير منه ما زال غائبًا في جَنَبات الخفاء، بل إنَّ البعض من ذلك التراث العظيم قد أصبح في طيِّ النسيان.
وعلى الرغم من هذه الوَفرة في مجال التحقيق، فإنَّه قد تسلَّلَ إلى هذا الميدانِ الدُّخَلاء، وذلك كغيره من مجالات العلوم، عندما يتصدَّى لها مَن ليسوا من أهلها؛ فيحصُل بذلك الفساد والفوضى؛ إذ ليس كلُّ المشتغلين في مجال التحقيق يقفون سويًّا على قَدَم المساواة؛ من حيث التمكُّن في هذا الميدان من ناحية، ومن حيث المقصد الذي يسمو إليه كلُّ مُحقِّقٍ من ناحية أخرى؛ فلكلٍّ وجهة هو موليها.
وإذا تقرَّر هذا، فإنَّ من الأمور المُهمَّة التي لا بُدَّ لكلِّ مُطَّلعٍ على مجال التحقيق أن يعلمها، أنَّ للتحقيق ثلاثة مقاصد أساسية، وهي:
1- تقديم النَّصِّ للقارئ صحيحًا كما تركه مؤلِّفه، لا كما يراه مُحقِّقه.
2- توثيق النَّصِّ؛ بنِسْبة نُقُوله وعزو مادَّته إلى أصولها المأخوذة منها.
3- توضيح النَّصِّ؛ بتمييزِ معالمه بالترقيم والتفقير، وبيانِ غريبه، وضبطِ مُشْكله، وتصحيحِ خطأ أو تنبيهٍ على وَهْمٍ -إن كان- من مؤلِّفه، وتعريفِ ما يجهله القارئ -في الغالب-؛ من مصطلحٍ، وعَلَمٍ، ومذهبٍ، ومكانٍ، ونَسَبٍ... إلخ.
فمَن استوفى هذه المقاصد فقد وفَّى التحقيق حقَّه، وكشف عن جُهدٍ مشكور، ومُثابرة محمودة، ومَن اقتصر على واحدٍ منها ووفَّاه حقَّه فليس بملوم؛ إنَّما القَدْح فيمَن أخلَّ بها جميعها.
وكنتُ قد نشرتُ هذه المقالة فيما سبق، إلا أنِّي رأيتُ أن أُعيد نشرها مجدَّدًا، بعد أن قمتُ بالنظر فيها وتحلِيتِها بزياداتٍ مفيدةٍ، أشرتُ فيها إلى أحوال المُحقِّقين ومراتبهم، وأغراضهم من الدخول في هذا المجال؛ وذلك من خلال التتبُّع والاستقراء لِمَا هو مطبوعٌ في الساحة العلميَّة، وقد جعلتهم على إحدى عشرة مرتبة:
الأول: مُحقِّقٌ ليس له في مجال تحقيق التراث ناقةٌ ولا جَمَل، وليس له في هذه الصَّنعَة إلا الشُّهرة في ميدانها فحسب!! قد امتدَّت يدُه للعبَث بتراث الأُمَّة، وتستَّر خلف الألقاب العلميَّة البرَّاقة؛ ليروِّج عبثَه تحت أفخم الألقاب وبريقِ بَهْرَجِها الخادع، وأعرِفُ من هذا النَّمَط أناسًا، عندما تقِف على تحقيقاتهم تلقى المئات من التصحيفات والتحريفات لكلام المؤلِّفين، ممَّا يندى له الجبين!!
الثاني: مُحقِّقٌ قد تدثَّر لباس الزُّور كذبًا، وأقحم نفسه في مجال التحقيق، وكَتَب اسمه على أغلفة الكُتب والمجلَّات والرسائل، واكتسب شُهرة واسعة، وكلُّ ذلك على حساب المـُعوِزين من ذوي الكفاءات العلميَّة، ممَّن تضعضعت بهم الأحوال وضاق بهم المعاش؛ فأخذ هذا المُتشبِّع يشتري جهودهم، ويقطف ثمارها بأمواله التي يقدِّمها لهم، ولرُبَّما اشتراها بثمن بَخْس، بل رُبَّما جيَّشَ بعضُهم جيوشًا من أولئك المساكين؛ ليكتسح ساحة المجد على آلامهم، ويُخرِج الأعمال الضخمة مختومة باسمه، وفي هذا وأضرابه يَرِدُ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ».
الثالث: المُحقِّق السارق، وهو الذي يتربَّص بجهود الآخرين في التحقيق، حتى إذا سنَحَت له الفرصة استَلَبَها بِرُمَّتها، مع تغييرٍ بسيطٍ رُبَّما يُحدِثه؛ ليغطي جريرة سَوْءته في السرقة والاختلاس؛ ولينال بذلك عَرَضًا من الدنيا، على حساب جهود الآخرين.
الرابع: المُحقِّق المـُلفِّق، وهو الذي جمع أكثر من نُسْخة خطِّيَّة للكتاب الذي يريد تحقيقه، واتخذ نُسْخة المُصنِّف أصلًا عند تحقيق الكتاب، وبعد ذلك أدخل نُصوصًا من النُّسَخ الخطِّيَّة الفرعية، في النُّسْخة الأصل التي اعتمدها؛ لاعتقاده بأنَّها مُتمِّمة أو شارحة للرواية؛ وهذا تلفيقٌ لا يصحُّ؛ لأنَّ ما يظنُّ أنَّه سقط أو خطأ في رأيه، هو وجه من أوجه الرِّواية؛ والصَّواب أن يبقى أصل المُصنِّف على ما هو عليه، وعدم التصرُّف فيه البتَّة، وأن تُكتب الزيادة في الحاشية لا في الأصل.
وكذا لا يصحُّ تغيير ما ورد في الأصل من الألفاظ التي تحتمل الوجهين، بلفظ ورد في النُّسَخ الأخرى، وإنَّما عليه بيانُ ذلك في الحاشية.
الخامس: مُحقِّقٌ يقتصر في عمله على ضَبطِ نَصِّ المؤلِّف، اعتمادًا منه على نُسْخة خَطِّيَّة وَقَف عليها، وهي ذات نفاسة وجودة؛ لتميُّزها عن غيرها بكثير من الفروق؛ ويجعل هذه النُّسْخة هي الأصل لغيرها، دون أن يُشير إلى فروقات النُّسَخ الأخرى للكتاب المخطوط؛ وذلك لئلا يُثقِلَ الكتاب بكثرة الهوامش فيزيد من حجمه، أو لدواعٍ أخرى، وله في ذلك سلف؛ إذ إنَّ كثيرًا من علماء الإسلام والنُّسَّاخ المتقدِّمين، كانوا ينْسَخون الكُتب دون الإشارة منهم إلى فروقات النُّسَخ الأخرى المتوفرة والحاضرة لديهم حالَ النَّسْخ والمُقابلة.
ويُعَدُّ هذا الصنيع من قَبيل النَّسْخِ والإخراج؛ لتعُمَّ فائدةُ نشر الكتاب، ولا يُعَدُّ تحقيقًا كما هو معلوم.
السادس: مُحقِّقٌ يقتصر على ضبط النَّصِّ وبيان فُروقِ النُّسَخ الخطِّيَّة، بدون تعليقٍ على ما أشكل من أسماء وألفاظ، ولا تخريجٍ للنُّصوص، ولا تعريفٍ بما يستحقُّ التعريف؛ وله في ذلك سلف، وهو أنَّ بعض علماء الإسلام والنُّسَّاخ المتقدِّمين فعلوا ذلك، واكتفوا به حين نَسَخوا الكُتب.
السابع: مُحقِّقٌ مُتقِنٌ، قام بضبطِ النَّصِّ، وأبَانَ الفروق بين النُّسَخ الخطِّيَّة للكتاب، وعلَّق على ما أشكل من الأسماء والألفاظ الواردة، واقتصر على ذلك، دون تخريجٍ للنُّصوص، ولا تعريفٍ بما يستحقُّ التعريف؛ وهذه جادَّة سلَكَها العديد من علماء الإسلام المتقدِّمين، حينما كانوا ينْسَخون الكُتب؛ إذ يضبطون النُّصوص، ويُثبتون الفروق بين النُّسَخ، ويُشيرون إلى ما أشكل من الأسماء والألفاظ بوضع ضَبَّة (صـ) فوق الكلمة؛ تنبيهًا لدلالة فروق النُّسَخ، ويُبيِّنون ما يلزم إلحاقه للمتن من الحاشية، والتقديم والتأخير في الأسماء والألفاظ، بوضع علامةٍ فوقها... إلخ.
الثامن: المـُحقِّق المُحيِّر، وهو الذي يقوم بما قام به صاحب الفقرة السابقة، إلا أنَّه يُنهِك النَّصَّ ويُشوِّشه بكثرة التعليق والتخريج، ويُبالغ في ذلك، حتى يصبح كلام المؤلِّف سطرًا أو سطرين في الصفحة الواحدة، بل ولرُبَّما تمادى في التعليق، حتى تخلو بعضُ الصفحات من كلام المؤلِّف؛ وهذا صنيعٌ يُحيِّر، فهل فعل هذه الطريقة ليزداد أجره المالي بزيادة صفحات الكتاب، أو أنَّه قصد إفادة القارئ؟! وعلى كلٍّ فالضرر المادِّيُّ لهذا النوع المُكلِّف من التحقيق، يقع غالبًا على الشُّبَّانِ المتوقِّدين لطلب العلم، وهم الأمل لنهضة الأُمَّة، وغالبُهم -كما نشاهد- ممَّن لم تستقم أحوالهم المادِّيَّة.
التاسع: مُحقِّقٌ مُتقِنٌ بارعٌ مُبدِعٌ، يُشار إليه بالبنانِ، ويُشاد به، وهو الذي يقوم بخدمة الكتاب على الوجه اللائق به، فيضع دراسة علميَّة للكتاب، ونُسَخه، وموضوعه، ومصادره، ورتبته في سُلَّم العلم الذي ينتمي إليه؛ ويتفانى في خدمة النَّصِّ، فإذا وقع سقط أو بياض في نُسَخ الكتاب المخطوط، يَجبُرُه بتتبُّع مَن ينقل عن هذا المؤلِّف، فإذا وَقَف على هذه الألفاظ التي توافق سياق مكان السقط أو البياض، فإنَّه يُدرِجُه في المتن ما بين معقوفتين، هكذا، مع الإشارة إلى المصدر؛ ولا يفعل هذا العمل الشاقَّ إلا المُحِبُّ للتراث، ومَن يريد كماله وإتقانه!
ويقوم -زيادة على ذلك- بتخريجِ النُّصوص والتعليق عليها، وضبط المُشْكِل، وتوضيح الغامض، بمقدار ما يحتاجه القارئ، ويعتني بالتفقير والترقيم، وصناعة فهارس مُفصَّلة للكتاب تشرح النَّفْس؛ وهذا -لعَمْري- عزيز، وعزيز!!
العاشر: وهو ما يُعرف بمكاتب تحقيق التراث، المكوَّنة من فريق عمل يُباشر التحقيق نَسْخًا ومُقابلةً، مع مشرفٍ عامٍّ تُدفَع إليه الأعمال، فيراجع، ويُعدِّل، ويُضيف، ويُحشِّي، ويُعلِّق؛ ثم تُطبَع الأعمال باسمه؛ وهذا لا حَرَج عليه، إذا قام بما يلزمه من الأمور المُشار إليها؛ تبرئةً لذِمَّتِه.
حادي عشر: القمَّاش، وهو الذي لا يُبالي أيَّ كتابٍ حقَّق، ولا أيَّ علمٍ - زعم!- أخرج للنَّاس؛ همُّه الربح المادِّي، ولو على حساب عقائد النَّاس وأخلاقهم، وأموالهم، وأوقاتهم؛ فتراه يُسارع إلى تحقيق الغثِّ لا السمين، وينبش السقط من التواليف، التي حقُّها أن تُقبر لا أن تُنشر؛ رغبة فيما في أيدي النَّاس من حُطام الدنيا الفانية، وإلى الله المُشتكى.
هذا ما أستحضره من أحوال المُحقِّقين، أوجزتها تذكيرًا، ولعلَّ الله يُيسر في مقالة أخرى، تسطير نُبذة من أُسس التحقيق الواجب اتباعها، والله المُوفِّق لكلِّ خير.
وفي ختام هذه المقالة، أودُّ أن أقدِّم نصحي لكلِّ مَن كانت لهم عناية واهتمام باقتناء الكُتب وتحصيلها؛ أن يسألوا ذوي الخبرة من أهل التحقيقِ، عن أجوَد الكُتب، وأفضلها تحقيقًا وعنايةً وضبطًا؛ لئلا يضعوا أموالهم في غير محلِّها؛ ولتحصُلَ لهم بذلك الفائدة والعائدة المرجُوَّة من اقتناء الكُتب والانتفاع بها.
** **
- إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير