يعد هذا العمل الروائي «الشاطئ الصخري» إضافة للمكتبة العربية خاصة بعد أن أشاد بها الأديب الفرنسي الكبير فرنسوا مورياك، وأيضا لأنها معروفة لدي القارئ الفرانكوفوني والأنجلو ساكسوني لما تتميز به من حبكة درامية عالية وسرد للأحداث التي لا يعرفها القارئ العربي عن المجتمع الفرنسي في الستينيات من القرن الماضي.
طغى على هذا العمل الوروائي « الشاطئ الصخري « طابع السيرة الذاتية بكل تفاصيلها بما في ذلك لعبة السرد بين الواقعي والتخيلي. رواية الشاطئ الصخري هي مخزن أسرار الكاتب جون روني هوجونان الذي يسترجع بعض الأحداث التي حولت بطل روايته من شخصية الرجل القوي إلى ذلك الإنسان المكبوت الضعيف. تتحدث الرواية عن أوليفيي الذي عاد الى عائلته في منطقة بريتاني بعد عامين من الغياب بسبب خدمته العسكرية. بدا أوليفيي كأنه مصاب بصدمة نفسية، ولهذا سيعامل والدته وأخته الكبرى وأصدقاءه القدامى بلا مبالاة. لماذا يشعر بالخوف؟ ما أسباب الصراع الداخلي غيرالمتناهي الذي أفقده كل المشاعر الإنسانية؟ لماذا يبذل قصارى جهده ليثني أخته «آن» عن الزواج من أحد أصدقاء طفولته؟ لماذا أفقده سلوكه غير المسؤول وأحلامه المزاجية حب واحترام عائلته؟ والسؤال المطروح هنا: هل تلك الأفعال المنسوبة إلى بطل روايتنا تقع حصرياً عليه، أو أيضا، وربما بمسؤولية لا تقل عنه، على مكونات المجتمع الفرنسي آنذاك؟
يمكن للقارئ العثور على إجابة عن كل هذه الأسئلة وغيرها من خلال متابعته لأحداث رواية الشاطئ الصخري لجون روني هوجونان الذي درس فى معهد الدراسات السياسيه بباريس، وأسس مجلة Tel Quel الأدبية، وتوفي في سن السادسة والعشرين في حادث سير بعد وقت قصير من نشر هذا العمل الروائي. يحق للقارئ أن يتساءل عن سبب شهرة الروائي جون روني هوجونان: أتكون هذه الشهرة بسبب موته المبكر أم بسبب موهبته، الواقع أن شهرته ترجع الى هذين العاملين مجتمعين خاصة وأن ظاهرة شهرة الكاتب ستكون بمثابة طرف الخيط الذي يفضي إلى تساؤلات جوهرية حول الرواية الاجتماعية وقدرة القارئ النموذجي لرواية «الشاطئ الصخري» على فهم طبيعة المشكلة المطروحة والرسالة المتوخاة منها.
ولأن الحيز الجغرافي في هذه الرواية يعد ركنا أساسيا في بناء نص أدبي متخم بأبعاده الرمزية، فقد اختار مترجم هذا العمل الأدبي المفردة «صخري» لأن مجريات الأحداث في مجملها تدور على شاطئ أحجاره صخرية، ولأن مؤلف هذا العمل اتّخذ من الشاطئ ذي الطبيعة الصخرية موقعاً لأحداث روايته بعوالمها السحرية، فقد اختار المترجم عبارة « الشاطئ الصخري» عنوانا لهذه الترجمة.
نُقدّم إلى القارئ ترجمتنا العربية لحوالي 2000 كلمة.
عندما حل المساء، دَنا منها دون أن تنتبه إليه، وقف على بضع خطوات وهو يحبس أنفاسه. تستدير فجأة، لكنه ينسحب إلى خلف شجرة البلوط، لا يبدو منها في هذه العتمة سوى الوجه، كل شيء من حولها بدا مثل بقع زهور زرقاء، يمسك القدَّاحة بيده ويمدها أمام الشجرة: تتراقص ألسنة اللهب للحظات ثم تنطفئ.
- تكلمت بكل هدوء وقالت: مَن هناك؟
لم يحرك ساكنا ولم يتنفس، يمسك القدَّاحة بيده، لكن بمجرد أن سارت أخته نحو الشجرة على أصابع قدميها وهي تحني رأسها الى أن تدلى شعرها الأسود الطويل إلى أسفل، حتى تبسم ضاحكا من شكلها،
- يا آن ...
- يا آن!
في نفس اللحظة تسمع نفس الصوت يأتيها من المنزل، لكنها لم تلتفت الا لصوت أوليفيي، توقفت ثم هزّت رأسها كما لو أنها لا تعرف صاحب هذا الصوت، وفي لمح البصر تأبطت ذراعه وبدون أن يتكلما سارا جنبا لجنب، بدا كأنه يشمّ رائحة تفوح من شعرها تشبه رائحة اللوز.
- كرر حديثه اللطيف مرتين: أشعرتِ بالخوف يا آن؟
وما إن طارت بُومَة حتى تحرّك شيء ما فوق فرع شجرة ثم وصل الى فرع شجرة أخرى، لكنه لم يقع على الأرض، عندئذ شعر أوليفيي بالخوف الشديد ثم ترك كل منهما صاحبه.
— كيف أتيت إلى هنا؟ لم أسمع ضجيج محرك السيارة.
- لأنني تركتها على جانب الطريق.
كان لقرع نعالهم صوت غير واضح على رمال الممرّ عند نهاية الحاجز الأبيض الذي يُسمع له صلصلة قوية، سارا في طريق تحيط به الأشجار من الجانبين ويتميز بوجود تمثال حجري عند مفترق الطرق وباب سيارة لا يزال مفتوحا.
- كانت أمي تعتقد أنك ستصل غداً.
- وأنتِ؟
- لا أدري.
أضاء المصباح العلوي ثم اقترب منها ونظر
إليها نظرة تنم عن مزيج من مشاعر الألفة والمجافاة.
- قالت له: يبدو أنك متعب، أغادرت باريس هذا الصباح؟
- لا، أنا في أحسن حال.
يتفحصها بنظراته الثاقبة، لكنها أدارت رأسها بعيدا عنه فجأة:
- يبدو أنك لم تتغيري، أليس كذلك؟
- وأنتَ أيضا؟
- سيصل بيير خلال ثلاثة أيام، ألم يرسل لكَ خطابا؟
لم يردّ أوليفيي عليها، يتحرك، ترتسم على محياه ابتسامة من يستشيط غضبا وترتعش على أثرها شفتاه، وبينما ينظر إلى البئر القديمة التي يتفجر منه الماء وإلى أبراج الحمام التي يغطيها اللبلاب المتسلق ويحيط بها النبات الأخضر من كل جانب وينتشر على واجهتها وينمو ويمد المكان بالظل الظليل، إذ به يقف أعلى درجات السلّم وهو يشبك ذراعيه أسفل المصابيح.
- حتما ستكون أمي مسرورة...
يزيح أوليفيي بتؤدة خصلة من شعره الأسود وينزل درجات السلم، لكن السيدة الدروز ظلت واقفة بلا حراك في مستوى أعلى منه، تحرك جزء من ردائها الأحمر الذي تضعه على جسدها الهزيل جدا بفعل ريح خفيفة وتراقص ظله خلفها ببطء في هذا البهو. من الناحية العلوية فوق الباب بقليل، تحوم حشرات وفراشات حول المصباح الكهربائي المصنوع من الخزف وتُصدر أصواتا. ما إن يرفع رأسه وينظر ناحية الطابق الأول بين مصراعي النافذة حتى يتوارى رأس بيرث. والآن، تمتد ذراعان الى الخلف (مفتاح التشغيل يتدلى من اليد اليمنى)، يستنشق جزيئات الغبار ورائحة عرق بارد، ينظر الى جلد مترهل ومتهدِّل تحت الشفاه يقترب منه، هنا يشعر بوخز الشامات الخشنة التي تشبه وخز الإبر والموجودة على جلد أمه عندما تقبله.
- يا لها من مفاجأة!
كان عليه أن يُحيِّيها وهو يدخل البيت، وما إن مرّ أمامها حتى شعركأنها تكاد تفقد توازنها، سار بعيدا عنها في الممر الداخلي، تفحص الجدران بعناية والفانوس المصنوع من حديد الزهر الليّن وحامل العصا الفارغ دائما وتمثال خشبي بالحجم الطبيعي للقديس جاك دو كومبوستيل وهو يمسك بقلمه وبعصا المشي التي يستخدمها الحجاج المسيحيون أثناء رحلاتهم، كل هذه الأشياء التي تنتظره لم تتحرك من مكانها ولن تتحرك أبدًا ولن تجعله يسشتعر الهزيمة أمام حتمية الموت... «أكانت رحلتك ممتعة يا ولدي الكبير؟ أكانت رحلتك مريحة؟ هناك، أسفل السلم الحجري في تلك الزاوية المعتمة حيث يوجد المخبأ الذي تتجمع فيه جميع أنواع عناكب البيوت الريفية، هناك حيث كان يلتقي بآن في كل مرة ويلعبان لعبة الغمَّيضَة، لم تغيِّر مكان اختبائها أثناء فترة طفولتها كلها خشية ألا يعثر عليها، لكنه كثيرا ما كان يتظاهر وهو يمر أمامها أنه لا
يراها، يسمع صوت نفسها في العتمة، يبتعد ثم ينادي عليها ويكرِّر النداء، يتجه ناحية السلم وينحني تحت الحاجز على جانبي السُّلّم... وفجأة تقف أمامه لكنها تختفي من جديد ثم تظهر لتمسك بذراعيه.
- أأنتِ هنا، متى وصلت؟
- تقول السيدة ألدروز، عزيزتي بيرث، يجب أن ترتدي سترة الصوف وإلا ستصابين بنوبة برد.
- ألم تسمعي ضجيج السيارة؟
- لا، كنت أخيط الثوب.
- أستغرب مقولتك، رأيتك تطلين برأسك من النافذة.
عند منعطف الدرج لم تتحرك بيرث، ظلت تضغط على شفتيها بحدة وتتجنب النظر إلى أخيها، وقد بدت على وجهها حمرة الخجل. تنزل درجات السّلم الأخيرة وتقف على مسافة خطوتين منه.
- لم أنتبه ... متى ستسافر؟
- لن أسافر.
يبتسم وهو يرى كاحل بيرث يتورم بسبب لدغات البعوض.
تقول السيدة الدروز: «يجب على آن أن تعدّ طعام العشاء».
- يا لك من فتاة رائعة يا بيرث.
- أنا لم أذق طعم النوم منذ ثلاث ليال.
- يا بيرث، يكرر أوليفيي نفس الكلام: يا لك من فتاة رائعة ثم يمدّ يده الى الأمام ويضربها على جبينها بأطراف أصابعه.
أشاحت بوجهها العريض الى الخلف وبسرعة شديدة نظرت اليه.
- أتترك أمي تحمل حقائبك الآن؟ يحاول أن يلحق بها على السلم ويأخذ الحقائب، يستدير على عتبة غرفته ويقول بصوت لطيف:
انتظري لحظة، أريد أن أكون بمفردي لفترة ثم أغلق الباب في وجهها.
- تصرخ بيرث من الطابق الأسفل. أماه! ألا تنزلي؟
يضع حقائبه بالقرب من سريره، يسير خطوات في الغرفة ثم يفتح النافذة، يلاحظ أمامه انعكاسا للضوء على الحائط فوق المدفأة لكنه لم يُعر الأمر اهتماما، أو ربما أنه لم ينتبه إليه الا لبرهة من الزمن، ثم تجاهل هذا الأمر بعد ذلك فورا. ها هو الليل يتشبّع برائحة البحر كما أن السياج العشبي يتخلّله بعض النباتات وأوراق أشجار الصنوبر التي تبدو كالإبر الصغيرة السوداء، كانت السماء صافية فوق التل، ومع ذلك اشتعل سقف المزرعة فجأة وسُمع طقطقة الفحم، ترتفع ألسنة اللهب، وتهتز أوراق الصنوبر العليا ثم ينهار كل شيء. أمام هذه النافذة، خلال الإجازات الأخرى، كان أوليفيي يقضي ساعات ينتظر حلول المساء حيث تصمت الطيور فجأة وتتحرك الرياح وتفوح رائحة الأزهار ... بعد وقت قليل، عادت آن وهي تسير بين شجر البلوط، لم يستطع أن يراها لأن غرفته تطل على الجانب الآخر من الحديقة، لكنه سمع صليل الحاجز الحديدي، وكلما اقتربت أكثر فأكثر كان يسمع صوتا يشبه أوبريت كوب الحليب على الرغم من أنها كانت تمشي بمفردها بجانب المنزل من الناحية الأخرى وهي منحنية الرأس وقد ضَفَرت شعرها وأسدلته خلف رقبتها بحيث لا يراه أحد...
– يبدو له كأنها قادمة من أعماق بحر أمواجه ساكنة ويحملها قارب تراءى له على امتداد الأفق بمداخن حمراء بينما يقف أوليفيي بلا حراك أمام نافذته قبالة المناطق القارية التي تقع خلف الساحل، وقد أصغى سمعه وبدا وجهه متحجرا. ظل ينتظر ذات مساء لمدة طويلة ثم نزل إلى الطابق السفلي حيث التقى بها وهي تحمل الحليب في قوارير.
يستدير ثم يفرك بأصابعه الجزء الخلفي لكرسي لونه أخضر، منذ أن كان يافعا وهو يغوص برأسه في الوسادة التي يمسك بأطرافها ويضغط بها على أنفه حتى يكاد أن يختنق. ينظر إلى صندوق الحلوى المصنوع من الخزف، به حلوى حمراء أُطلق عليها فيما مضى، الخشخاش، أما في هذه الأيام فتسمى الصافرة أي الأنبوب الفارغ من الأسبرين أو السيجارة الصفراء التي يبلغ ثمنها قطعة معدنية بقيمة خمسة فرنكات. يضع السيجارة بين شفتيه، يشعل القدّاحة ويرفع رأسه: هناك من ينظر إليه يتراجع خطوة إلى الوراء بسرعة، تتحرك ستارة النافذة ثم يختفي ذلك الذي ينظر اليه.
— لماذا يتم وضع هذا الصندوق الخزفي في غرفتي؟
تستدير والدته فجأة بينما يهمّ بفتح الباب وهو يرتدي ثوب النوم.
- لست أنا يا أوليفيي! كن واثقا مما أقول، فأنا أعرف عاداتك.
- أنها بيرث إذن.
- ينادي أوليفيي على آن. هل طعام العشاء جاهز!
- أيعقل هذا، ألم تبدئي في إعداده…
- وما الذي أُعدّه؟
نزلا درجات السلّم على مهل جنبا إلى جنب بخطوات بطيئة وقصيرة وتابعا سويا مسيرهما في الزقاق حتى وصلا إلى الحاجز الأبيض البعيد جدا حيث بدت أشجار البلوط كبيرة كلما ابتعدا عنها، وما إن توغل الليل بعتمته حتى ألبسهما ظلمته وأخفاهما تماما. لم يشبكا أيديهما ولم يتحدثا مع بعضهما بعضا، ومع ذلك فقد أصغى كل منها الى الآخر وكأنهما سيتكلمان عن الآمال المشرقة، ربما كان هذا الإصغاء انعكاس لضوء القمر الذي منحهما وجها بشوشا. وما إن بسط اللَّيل رداءَه بأصواته المبهمة حتى تتابعت من بعيد أصوات أمواج البحر فلحق بعضها بعضا وتوالت أصوات تكسيرأفرع الأشجار وأصوات حركة مفاجئة لطائر يطير باتجاه الأراضي البور وأصوات قرع ناقوس مكتومة وأصوات صراصير الليل.
وما إن فقدت آن توازنها حتى اصطدمت بحجر لكنها تشبثت بيده الدافئة بسبب أشعة الشمس دون أن تضغط عليها كما يفعل الإنسان بإصبع الطفل ليضعه بلطف في راحة يده.
لم يعد يفكر في آن على الرغم من أنها كانت هناك وتسير بجانبه في جوف الليل. إنه يتذكر ليالي أخرى مضت، ليالي الحرب التي تميزها رائحة الكهوف بممراتها الضيقة المغطاة بألواح خشبية وتجعله يشعر كأنه في معرض لعرض تقنيات التعدين، كما أنه يتذكر صوت الفئران وهي تقرض بسرعة تلك الألواح، إنه يتذكر أيضا تلك الليالي التي نزلا فيها سويا وهو يمسك بيدها كما حدث في هذه الليلة عندما كانا يسيران في سكينة نحو منطقة بعيدة خلف أمهما بينما كانت بيرث تشعر بالخوف بسبب صافرات الإنذار التي انطلقت من خلفهم، كانت آن تتشبث بيديه، لم يسمعا صوت انفجارات، لأن الصوت كان لصاعقة رعدية ضربت السقف مما أدى إلى اهتزازه فجأة بشكل تذبذبي بطيء. وما إن انطلقت صافرات الإنذار مرة أخرى حتى شعرا كأنهما داخل قوالب من الثلج.
وبمجرد أن مرا أمام تمثال حجري حتى شاهدا انعكاس ضوء القمر على سطحه المنحوت من الجرانيت. سارا في طريق تصطفُّ على جانبيه الأشجار التي تتميز بأزهارها المتفتحة وتمتد حتى البحر.
- قالت آن أن بيرث لم تفعل أي شيء عن قصد ثم أردفت قائلة بصوت حزين جدا أنك يا أوليفيي كنت تنظر إليها لكنها لم تلتفت إليك. ما كان يجب علىّ أن أخبرك بذلك عندما علمنا بموعد وصولك، لكن بيرث اشترت نسخة تقويم ورقي على الرغم من عدم امتلاكها لا لدفتر تدوين جدول أعمالها ولا حتى لساعة يد، وأنا أعرف أنها كانت تنزع صفحة من تلك النسخة قبل أن تخلد للنوم في كل ليلة.
- على كل حال، ليس باستطاعتها أن تفعل شيئا.
يعتقد أن تنهِيدة مِلؤُها الألَم صدرت عنها، وما إن استدارت فجأة ناحية شاطئ البحر حتى قالت له بصوت خفيض: «أنت لا تحب الا الأشياء التي تعجبك» وفي نفس اللحظة التي تخلصت من قبضة يده، إذ بها تقف قبالة البحر برياحه القوية وتلتفت إليه بكامل وجهها فتراه أمامها بشعرها الذي يتطاير بفعل الرياح ثم يعود كما كان ثم تحدّق النظر اليه من جديد وترفع رأسها الى أعلى وتقول:
- يا أوليفيي، سأتزوج.
وبمجرد أن ضربت أمواج البحر الشاطئ حتى بدا كأنه يبتسم، يخفض رأسه ليرى بعض الأحجار الصغيرة تلمع في الطريق، يسمع صوت طقطقة الحصى الذي يتحرك بفعل الأمواج، بعد فترة ساد فيها الصمت، يسألها وهو يضع كلتا يديه في جيوبه:
من يكون؟
- اسمه بيير.
- أتقولين بيير؟
- نعم بيير.
- أحقا ما تقولين!
يرفع رأسه إلى أعلى: فاذا بوميض النجوم ينطفأ ويظهر خطان متقاطعان يضيئان بالتناوب في السماء أحدهما أخضر والآخر أحمر. يتخيل لبرهة من الزمن صور الرؤوس المائلة إلى الوراء على الجزء الخلفي للكرا سي ويتخيل أيضا هذه العيون المغلقة أسفل المصابيح الليلية المضيئة، كما أنه يتخيل تلك الأجساد التي يتم نقلها ليلا إلى بعض المدن الجنوبية كمدريد أو بيروت... أحد هذه الأجساد كانت لامرأة سيتم نقلها الى هناك... لا يعرف أكانت امرأة أم أنها فتاة صغيرة أو حتى رجلا يبدو على وجهه براءة الأطفال. لا يزال أزيز الطائرة يدُويّ في أذنه مرارا بين الفينة والأخرى بينما كان يسألها بصوت مشتت ومتقطع وهو يشعل سيجارة: أيحبك هذا الرجل؟
- لا أعرف، أعتقد انه يحبني، إلا أن علامات الحزن ترتسم على محياه عندما يلتقي بي.
- نعم فالحزن يسيطر عليه عندما يلتقي بأي انسان، ألا تعرفين ذلك.
- ردت عليه آن بصوت هادئ إن كل ما أعرفه هو أنه بحاجة لأن يكون محبوبا.
- هو من أعز أصدقائي أو لنقل صديقي الوحيد، ليس بإمكانك الاختيار بشكل أفضل. فجأة شبكت أصابعها بعضها ببعض وألحت عليه بطريقة طفولية وهي تفتح عيونها الجميلة وتدقق النظر فيه ثم تغلقها لتقول: «أنت لا تريد أن تفهم.» يبتعد عنها دون أن يردّ ويواصل طريقه بكل بساطة غير مبال بها، وقد بدا كالهائم على وجهه الى أن استدار ونظر إليها ثم انعطف في طريقه وقد بدت نظراته الحادة والمشوّشة تشبه نظرات ذلك الطفل الصغير الذي كانت السيدة الدروز تصطحبه معها أحيانا أيام الخميس إلى مواقع البناء على أمل أن يقوم في يوم من الأيام بدوره في تولي إدارة شركة العائلة، سيظل ذلك الطفل يستند لساعات على عارضة خشبية وهو يراقب تحركات أي شخص بتركيز شديد جدا قد يصل الى حد الوسوسة حتى جاء اليوم الذي تحدث فيه رئيس العمال بأن ذلك الوضع يسبب ضيقا للعاملين بالشركة أثناء تأدية أعمالهم. هنا يعود الطفل إلى السيدة الدروز ليجدها تضع سيجارة في فمها وغير مكترثة بما يقول. لم ينظر إلى وجهها ولكنه كان مبهورا بردائها الذي تحركه الرياح فيكشف عن جزء من ساقيها.
- من الغريب جدا أنه لم يتكلم معي عن هذا الأمر في خطاباته التي أرسلها لي مؤخرًا؟
- لا أريد أن يتكلم معكَ بهذا الخصوص.
- لماذا؟
- أواثق أنت مما تقول؟
- ألا تعرفين أنه سيعمل في بيروت؟
- ما الذي تقوله يا أوليفيي
تهز رأسها، يقترب منها مرة أخرى ويسلم عليها وهو يبدي إعجابه بقلادتها الذهبية.
- الجو بارد، هيا بنا نرجع إلى المنزل».
وهنا ينتهي النص المترجم.
** **
- د. أيمن منير