أمراء البيان ورموزه الكبار في مطلع العصر الحديث: مصطفى المنفلوطي، والرافعي، والزيات، والعقاد، والمازني، وطه حسين وزكي مبارك، وأحمد أمين، وتوفيق الحكيم و...
كانوا يفرحون برسائل القراء التي تصلهم عن طريق بريد الصحف والمجلات، خصوصًا تلك التي يبدي فيها القراء إعجابهم بمقالاتهم!
بينما لم يتمكن من سبقهم في الأدب العربي القديم، كابن المقفع والجاحظ، والتوحيدي، والحريري، الهمذاني و ... لم يتمكنوا من التواصل مع قرائهم ومحبيهم في الوطن العربي إلا مصادفة، فلا صور لهم، ولا بريد لهم في صحف أو مجلات!
أعود إلى أمراء البيان في العصر الحديث، وكيف كان قراؤهم ومعجبوهم يتواصلون معهم، ونأخذ على ذلك مثالاً منهم، وهو الأديب الكبير: إبراهيم بن عبدالقادر المازني أحد أقطاب الأدب الساخر في العصر الحديث، والمازني الذي بدأ حياته شاعرًا وناقدًا ثائرًا على الشعر القديم وأغراضه وأوزانه الشعرية سرعان ما هدأت نفسه، بعد أن عاد مرة ثانية يقرأ في الأدب العربي قراءة متأملة، فوجد فيه كل ما كان يبحث عنه، فنهل منه حتى ارتوى، وندِم، بل وتحسَّر على نقده في مطلع شبابه لعدد من الأدباء، وخصوصًا نقده الذي كان فيه تجريح كبير للأديب الكبير مصطفى المنفلوطي!
وبعد أن نضج المازني، استطاع أن يضع له كرسيًا يجلس عليه في مجالس الأدب بين أدباء عصره، كطه حسين، والرافعي، والعقاد، والزيات، وأحمد أمين، وزكي مبارك، وتوفيق الحكيم، بل ويزاحمهم، فهو بعد أن اتجه للكتابة أصبح له أسلوب يتفرد به عنهم، فهو يكتب بقلم سهل لكنه ممتنع، قلم ممتع لا يعرف الكلفة والتصنع، وبرز المازني في الأدب الساخر حتى تربع على عرشه، وأنتج عددًا من المؤلفات التي امتلأت فكاهةً وسخريةً من عدد من القضايا الاجتماعية في عصره، وسخرية المازني لم تكن في يوم من الأيام للإساءة من أحد أو التنمر عليه، وإنما كان يهدف منها إصلاح المجتمع، وتصحيح عيوبه، والمساهمة في حل مشكلاته من خلال إثارة الضحكات، وانتزاع البسمات، ومن الطريف أنَّه لما حج البيت الحرام عام 1930 بدعوة من الملك عبدالعزيز -رحمه الله- مع عدد من العلماء والأدباء من مصر، أمثال: شيخ العروبة: أحمد زكي باشا، والزِرِكلي صاحب كتاب الأعلام وغيرهم، لم يتخلَ عن فكاهته وضحكاته وقفشاته في كتابه الذي أصدره بهذه المناسبة، وعنونه ب (رحلة الحجاز) الذي عدَّه النقاد من أوائل كتب الرحلات في الأدب العربي، ففيه مزج المازني الأدب بالجغرافيا والتاريخ، فوثَّق لنا رحلته، وصوَّر لنا بقلمه الحياة الحجازية في تلك الفترة وأبرز معالمها، وأنعش القارئ كعادته بعدد كبير من المواقف الضاحكة، والصور الباسمة. يبدو أني أطلت عليكم أعود الآن إلى المازني ورسائل القراء التي كانت تصله عبر بريد الصحف والمجلات التي كان يكتب فيها، وكانت تلك الرسائل تحمل معها الغرابة والطرافة، فهذا أحدهم يرسل إليه رسالة يقول فيها: إنني أقرأ كتبك وأنا في المستشفى على السرير الأبيض، ومستمتع بها وبأسلوبك، وليتك ترسل لي كتبك الجديدة، لأقرأها وليتك ترسل قيمة علاجي إلى المستشفى!
وأحدهم ما طابت له القراءة للمازني إلا وهو في السجن!
فأخذ هذا المسجون يراسل المازني، مبديًا إعجابه به وبأسلوبه، حتى أن هذا القارئ المسجون طلب من المازني إرسال مؤلفاته،
ولو حصل أن يرسل معها تكلفة المحامي فإنه سيقرأ حتى
مقالاته القديمة، ويقول المازني: (رغم أن هذا التواصل مع قراء مرضى، ومساجين إلا أنه رفع معنوياتي، وذكرني بإخوة لي من المساحيق!)
وأختم لكم هذه المقالة بطرائف مشابهة وصلت إلى بريد صاحب كتاب (حوارات ظريفة مع أبرز شعراء العرب) عفا الله عنه، حيث قال: كتبت هذا الكتاب للشباب الصغار من (الطعش والعشرين وفيها) لأعرفهم بأساطير الشعر العربي، بأسلوب يناسب مرحلتهم فيه طرافة وخِفَّة، وشيء من الصور الضاحكة، كل هذا لأجعلهم يقرؤون في أدبنا العربي الذي ابتعدوا عنه وهجره!
يقول بعد هذا كله، انصدمت من الرسائل الإليكترونية التي وصلتني، فالرسائل التي وصلتني من رجال كبار سن (وشيبان!)
فهذا أحد القضاة في إحدى المحاكم الكبرى، يرسل لي رسالة يبدي فيها إعجابه بالكتاب، ويتمنى أن أزوده بعناوين أي كتب أخرى لي ليشتريها، ويقرأها!
وهذا طبيب عيون: أرسل رسالةً كلها (قطرات) من الإعجاب!
وآخر منِ كبار النقاد في مشهدنا الثقافي يرسل رسالة عن طريق أحد الزملاء يبدي إعجابه ببكارة الفكرة، وخفة الأسلوب!
وأحد الزملاء أرسل رسالة يقول فيها: إنَّ والدي قرأ كتابك فاستمتع به جدًا، بل أصبح كتابك ملازم له في كل مجلس!
فعلمتُ حينها أنني فشلت، بل وفشلت وبامتياز، لأنني أردت الكتاب للشباب فقرأه (الشيبان) يا لبَّى قلوبهم!
** **
- راشد بن محمد الشعلان