تنتظر الذاكرة الثقافية العربية والعالمية كل عام اتجاه بوصلة التقدير والوفاء التي تعلنها «جائزة الملك فيصل» منذ أعوام حافلة بالضياء،ومكتنزة بالوفاء؛ مؤكدة مع كل إعلان خلوصها لكل عمل إنساني يستحق التقدير والتكريم،مستوحية من اسم صاحبها الشهيد «فيصل بن عبدالعزيز آل سعود» رمزية الاسم،وتاريخية الفعل باعتباره اسما ثابتا في الذاكرة العربية والإسلامية والعالمية، لاعتبارات وحيثيات كثيرة وموضوعية أثبتت اسمه بكل اعتزاز واحدا من الأسماء القيادية الفاعلة التي كانت تعمل قبل أن تقول،وتقول بعدما تنجز عليه رحمة الله ورضوانه...
وقد شرفت وسعدت خلال الفترة الماضية القريبة بزيارة هذه الجائزة،والالتقاء بأمينها العام المثقف والناقد والأديب المعروف علما وتواضعا وفعلا منجزا الدكتور عبدالعزيز بن محمد السبيل،وكان لقائي به فرصة حقيقية مهمة جدا بالنسبة لي للاطلاع على آليات عمل هذه الجائزة التي كان وما يزال له اسمها ورسمها ومكانها ومكانتها الجديرة بكل هذه الحمولات التاريخية النوعية من النجاحات المتوالية،وهي تحظى إلى اليوم بدعم وتشجيع من قيادات بلادنا الغالية، وباحترام ،وتقدير عالميين؛ لنزاهتها وانفتاحها على علوم وتخصصات مختلفة،وخلوصها للعلم والمعرفة متجاوزة الاعتبارات الضيقة،والتوجهات الملغية...
أتيت إلى عبدالعزيز السبيل وأنا أستذكر كلمة ناقد عربي له أمانته ونزاهته العلمية والثقافية وهو يقول لي في وقت سابق: إنه جاء إلى الجائزة محكما في أحد الأعوام القريبة ،ولم تكن تلك المرة هي المرة التحكيمية الأولى له أو للزملاء والزميلات في عضوية التحكيم لجهات علمية أخرى؛ فقد شاركوا قبل ذلك في تحكيم جوائز متعددة، وبالتالي فلم يكونوا غريبين على المشهد التحكيمي،بل كانوا مركوزين في تفاصيله ،حاضرين في متابعته، جديرين بالشهادة بعد المشاهدة، وما زلت أذكر قوله بأن ما رأوه وعايشوه من مهنية ودقة ومتابعة وانضباط في هذه الجائزة كان مبعث إعجاب للجميع،وكان مصدر إعجاب واعتزاز له على المستوى الشخصي، حيث كان يسمع ويقرأ من الزملاء والزميلات ثناء مستحقا،وتقديرا حقيقيا لكل هذا العمل المهني الجدير بكل إعجاب، حيث يبدأ التواصل مع المحكم قبل الحضور إلى المكان،فهو سيصل،وقد أخبر سابقا بجدول مفصل بدقة ومهنية عالية لكل ماهو مطلوب منه، فالمسار واضح،والمهمات مفصلة بالزمان والمكان، والإمكانات مهيأة؛ لأن يعمل في جو حواري يمنح الحرية الكاملة في النقاش وطرح الآراء بتجرد لا يتدخل فيه أحد،وتلك قيمة أخلاقية وعلمية كبرى كانت مصدر اعتزاز لكل عربي مسلم أمام الزملاء المحكمين القادمين من البلدان المتقدمة علميا وحضاريا...
وحينما استمعت من د.عبدالعزيز السبيل إلى الآليات العامة لطريقة عمل الجائزة التي تبدأ وتنتهي بكل حرفية مع المستشارين، والمحكمين، والعاملين، علمت سبب إعجاب الناقد العربي وثقته واعتزازه بهذه الجائزة كما هو شأن الكثيرين في العالم؛ حيث انضباط الرؤية،ووضوح المسار،ورسم التفاصيل الدقيقة ،وتحديد عمل كل شخص في الجائزة،والتأكد من أداء الجميع مهماتهم في جو من الوضوح والشفافية؛ لإنهاء مراحل التحكيم التي تأخذ في قائمة أولوياتها وأولياتها حرية المحكم المسؤولة عن الاختيار والتسبيب،ثم تتابع اللجان المختلفة في دراسة الأعمال، والنظر في آراء المحكمين؛رغبة في الدقة،وحرصا على الأمانة والانضباط،وكم هو لافت وجدير بالاعتزاز أن عددا كبيرا من الفائزين بهذه الجائزة قد حصلوا بعدها على جوائز عالمية من بينها «جائزة نوبل» وتلك نتيجة العمل «المتقن» في أصدق معانيه...
والحق أني كنت أستحضر -وأنا أغادر المكان بعد كل هذا الجمال العلمي والثقافي والإداري - بيتي ابن هاني الأندلسي حينما قال:
كانت مساءلة الركبان تخبرنا
عن جعفر بن فلاح أطيب الأثر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت
أذني بأحلى مما قد رأى بصري
فما كان الواقع إلا مصداقا لرأي الشاهد،وماكانت العين إلا مقرة بما سمعت الأذن،وتلك مزية العمل المنضبط،والأداء المحكم،ولا غرابة أن يكون ذلك كذلك ورئيس هيئة الجائزة هو «خالد الفيصل» وهو الاسم الذي يعطي الوهج العلمي والثقافي والإبداعي محليا وعربيا وعالميا عبر مسيرة من النجاحات، وسيرة من المنجزات.وأن يكون رئيس مجلس إدارة «مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية» قامة سياسية وثقافية لها ثقلها العالمي المعلوم في المشهد السياسي والثقافي وهو سمو الأمير تركي الفيصل.
وبعد كل هذا فإني أنادي بكل موضوعية ورغبة في نجاح ورقي جوائزنا المحلية والعربية إلى أن تستفيد هذه الجوائز من هذا الرصيد الضخم الذي حققته جائزة الملك فيصل،وهو رصيد ما كان له أن يستمر بكل جدارة لولا توفيق الله عز وجل أولا ثم هذه الآليات العلمية الدقيقة والنزيهة التي تبدأ من اختيار موضوعات الجائزة وآليات تحكيمها،والإعلان عنها،وهي آليات موضوعية ودقيقة تؤدي إلى تكريم المستحقين فعلا بالفوز.
وأثق أن معالي وزير الثقافة سمو الأمير بدر بن عبدالله آل سعود حريص كل الحرص على أن تواكب جوائزنا المحلية المختلفة رؤية المملكة العربية السعودية 2030 التي تأخذ الأعمال الثقافية نحو الجودة والشفافية والحوكمة،والتحية من قبل ومن بعد لهذه الجائزة التي ما زالت إلى اليوم مشعل نور ووفاء، وتقدير للعقول المبدعة أين وحيثما كانت من أرضنا الواسعة الممتدة...
** **
- أ.د.عبدالله حامد