تعدّ رواية (أديب) لطه حسين أنموذجاً فردياً في إدراك العالم وتمثيله فنياً وإبداعياً؛ فالسرد الحسيني في (أديب) يتخذ من كتابة الألم طريقة في تأويل المعيش اليومي، وصنع التصورات الفكرية والثقافية المفسرة للظواهر المؤرقة للإنسان في العصر الحديث.
إن رواية (أديب) حكاية لسيرة صديق لطه حسين، مريض بعلة الأدب، يتخذ من هذه العلة سبيلا ًإلى فهم العالم، والتحكم في مداركه وأحاسيسه وتمثلاته، وقد صوّر طه حسين تجربة صديقه تصويراً مرتبطاً بانفعالاته، وفهمه المخصوص للأدب، وعلاقته بالمعيش اليومي، فقال: «فلستُ أعرف من الناس الذين لقيتهم وتحدثت إليهم رجلاً أضنته علة الأدب، واستأثرت بقلبه ولبه ونفسه كصاحبي هذا. كان لا يحس شيئاً، ولا يشعر بشيء، ولا يقرأ شيئاً، ولا يرى شيئاً، ولا يسمع شيئاً إلا فكّر في الصورة الكلامية، أو بعبارة أدق: في الصورة الأدبية التي يظهر فيها ما أحس، وما شعر وما قرأ وما رأى وما سمع. وكان يجد مشقة شديدة في إخفاء تفكيره هذا على الناس، فكثيراً ما كان يقول لأصحابه إذا رأى شيئاً أسخطه أو أرضاه: ما أخلق هذا الشيء أن ينشئ صورة أدبية ممتعة للسخط أو الرضا»، لقد جعل طه حسين التصوير الفني طريقة من طرائق إدراك الألم المعيش والإحساس به في التجربة الإنسانية، وهذا دليل على فهم مخصوص لكتابة الألم في السرد الحسيني؛ فالألم في (أديب) مرتبط بتحقيق الذات، وهو مغاير للألم الذي يعتري المريض، ثم إن هذا الألم يجمع بين الرضا والسخط، وفي ذلك إشارة إلى علاقة الكتابة السردية الحسينية بالمعيش اليومي، وما فيه من شقاء وسعادة.
لقد تحولت صناعة الألم في (أديب) من تعبير فردي إلى مشترك جماعي مرتبط بإدراك الجماعة وأعرافها الفكرية والثقافية؛ فصديق طه حسين المتألم يتكئ على المشترك الإنساني، فيصبح التعبير عن الألم مظهراً من مظاهر تخييل المرجعي، وصورة من صور التأثير والإقناع، يقول طه حسين في وصف صديقه الأديب: «وهو بعبارة واضحة لا يعيش لنفسه، وإنما يعيش للناس، وهو حين يأتي من الأمر هذا كله، يخادع نفسه أشد الخداع، ويضللها أقبح التضليل، فيزعم أنه مؤثر لا يريد أن يستمتع وحده بنعمة الإحساس والشعور والتفكير. وإنما يريد أن يشرك الناس في هذا الخير الذي أنتجته طبيعته الدقيقة الخصبة الغنية، فإذا كان متواضعاً، معتدل الرأي في نفسه، فهو شقي تعس محزون، يحب أن يعلن إلى الناس ما يجد من شقاء وتعس وحزن؛ لعلهم يرثون له أو يرأفون به أو يشفقون عليه»، ففي هذا المقطع السردي الحسيني تصوير أدبي لاشتغال النظام العرفاني الفردي والجماعي في أثناء التلفظ الخطابي، وهذا دليل على العلاقة الوطيدة التي تربط الأدب بالتمثلات الثقافية المتحكمة في نظم الجماعة وأعرافها الفنية والفكرية؛ فإعلان الألم للناس بالكتابة، ضرب من ضروب التفاعل الاجتماعي بين الراوي المؤلف ومتلقيه، وطريقة من طرائق إنتاج المعنى في النصوص السردية، وإستراتيجية من إستراتيجيات تمثل الخطاب القصصي للبنى التصويرية المتحكمة في تجربة كتابة الألم.
وللنعوت أثر في إبراز آلام الذات المروية، وضبط انفعالاتها المختلفة، ونقل تلك الأحاسيس إلى القارئ؛ لإنجاز عمل التأثير بالقول، يقول طه حسين في وصف صاحبه الأديب المتألِم: «لم تكن قد تقدمت به السن، بل لم يكن جاوز الثلاثين، ولكن علامات الكبر كانت بادية على وجهه وقده، لا يخدع عنها أحد، كان على قصره مقوس الظهر إذا قام، منحنياً إذا جلس، ولعل إدمانه على الكتابة والقراءة، وإسرافه في الانحناء على الكتاب أو القرطاس هما اللذان شوها قده هذا التشويه. وقلما كان وجهه يستقيم أمامه، إنما كان منحرف العنق دائماً إلى اليمين وإلى الشمال، وقلما كانت عيناه الصغيرتان تستقران بين جفونه الضيقة، إنما كانتا مضطربتين دائماً لا تكادان تستقران على شيء حتى تدعاه مصعدتين في السماء، أو تنحرفا عنه إلى ما يليه من إحدى نواحيه»، ففي هذا المقطع الحسيني تصوير بديع فريد لمظاهر الألم عند الشخصية المروية لحظة الحدث الكتابي، ونقل للتلفظ القولي إلى القارئ؛ رغبة في استمالته والتأثير فيه، وحمله على إنجاز عمل الإحساس بالألم. وهذا كله جزء من مفهوم الأدب عند طه حسين.
وللفضاء الروائي أثر في وصف تجربة الألم عند الشخصية القصصية، فقبل الذهاب إلى فرنسا لطلب العلم، والاطلاع على الآداب والحضارة الغربية، ذهب الراوي إلى الريف؛ لتوديع والديه وأسرته، ورؤية قريته الجميلة، فتحول الفضاء إلى ضرب من النشاط اللغوي الموجع، وصورة من صور تجربة الألم والإحساس به، يقول الكاتب: «ليتني لم أسمع لك أيها الصديق، فقد كنتُ أوثر أن أرتحل إلى فرنسا دون أن أذهب إلى ريفنا الحزين؛ لأرى أبوي وأسرتي، ولأرى قريتنا، ولأملأ نفسي من هذه المشاهد الجميلة التي نشأتُ فيها، وكنتُ أرى أني سأجد في هذه الرحلة القصيرة إلى الريف آلاماً يحسن أن أتجنبها، وأن أستقبل الحياة الجديدة بنفس مشرقة، وقلب لا يجد حزناً، ولا يحس لوعة، ولا يأسى على شيء»، لقد تحول هذا الفضاء الريفي الجميل إلى فضاء حزين موجع؛ لإظهار الانفعالات الناتجة عن تجربة الألم في التلفظ اللغوي، وقد صرّح الراوي المؤلف بإدراكه المؤلم «لقد كنتُ شديد التردد في الذهاب إلى الريف، أحس من نفسي ضعفاً شديداً عن احتمال هذا الوداع الأليم، وداع هذين الشيخين اللذين لم يكونا يحتملان إقامتي في القاهرة بعيداً عنهما إلا كارهين، فكيف بهما إذا علما أني لن أقيم في القاهرة، ولن تكون بينهما وبيني ساعات، ولكني سأعبر البحر الملح العريض إلى بلاد نائية لا تحسب المسافة بيننا وبينها بالساعات، وإنما تحسب بالأيام»، إن هذا الوداع الأليم خطاب بني بالمشترك اللغوي؛ للتعبير عن تجربة الألم، وتمثيل الرحلة العلمية إلى فرنسا تمثيلاً ذهنياً عرفانياً؛ رغبة في تجسيد الحدث المعيش المرجعي وتمثيله، وإعادة بنائه انفعالياً وعاطفياً، وقد أضفت المشيرات المقامية (هذين الشيخين اللذين) على حدث التجربة الحسية معنى إنسانياً موجعاً ومؤلماً؛ لتشييد عوالم قصصية ذات قيم خطابية، تتخذ من المشترك الإنساني وسيلة للتعبير عن الألم؛ فتوديع الوالدين قبل السفر ضرب من ضروب الذاتية المؤلمة في كل النظم العرفانية والتمثلات الذهنية والتجارب الإنسانية. وقد عبّر الراوي المؤلف عن تجربة الوداع في الفضاء الريفي، مستعيناً بالألفاظ الدالة على أقصى درجات الوجع والألم، فقال: «هنالك رحلتُ إلى الريف، وليتني لم أفعل، فلم أكن أظن أني سألقى في هذا الريف ما لقيتُ من حزن لاذع، وألم ممض، ويأس لا صبر معه ولا احتمال». وقد أسهم المشير المقامي (هنالك) في جعل تجربة الألم تجربة عاطفية مركبة، وسلسلة من التمثلات الذنية المتعددة في كينونة الذات المتألمة.
إن كتابة الألم في رواية (أديب) مرتبطة بحياة الإنسان في كل أحواله، فالألم كما يعرفه الأنثروبولوجي دافيد لوبروطون «الألم معطى من معطيات الحياة البشرية، ولا أحد ينفلت منه في لحظة أو أخرى؛ لأن حياةً من غير ألم أمرٌ لا يتصور، أنه يتسلط على المرء بشكل عابر، أو بشكل مزمن حسب الظروف»؛ لهذا كانت ظروف الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) مظهراً من مظاهر كتابة الألم في (أديب)؛ فقد أثرت هذه الحرب في مسار دراسة الشخصية الراوية ذهاباً وإياباً إلى فرنسا، وأثرت أيضاً في صديق الراوي المؤلف، وفي نفسيته حتى انتهى إلى الجنون، أو إلى شيء قريب جداً من هذا الجنون، ومن مظاهر كتابة الألم في زمن الحرب، تأجيل الرحلة إلى فرنسا، يقول الراوي المؤلف: «وقد تهيأت لي أسباب الرحلة إلى فرنسا على خير ما كنتُ أحب، وإني لأستعد للرحيل متنقلاً لذلك بين القاهرة والصعيد، وإذا الحرب الكبرى تعلن، وإذا كل شيء يتغير في حياة الأفراد والجماعات، وإذا رحلتي تؤجل وإذا أنا مضطر إلى أن أقيم في القاهرة بائساً محزوناً سيئ الحظ خائب الأمل، وتأتي الأنباء بأن الطلاب المصريين قد هجروا باريس، كما هجرها كثير من الفرنسيين، وكما هجرتها الحكومة الفرنسية نفسها حين دنت منها جيوش العدو»، لقد كانت الحرب الكبرى مانعة من تحقيق مراد الراوي المؤلف؛ لذلك تحول المقطع السردي إلى حدث كتابي محمل بدلالات التجربة الزمنية للذات المتلفظة، وهذا ما جعل الراوي المؤلف يستعين بالمشير المقامي (أنا) الدالة على الذاتية؛ للتعبير عن تجربة الألم في أثناء النشاط اللغوي والتخاطب القولي، وتوليد الأنظمة التخييلية المرتبطة بأحوال الذات الكاتبة (وإذا أنا مضطر إلى أن أقيم في القاهرة بائساً محزوناً سيئ الحظ خائب الأمل).
وتعد رواية (أديب) لطه حسين من أوائل الروايات الرسائلية في الأدب العربي الحديث، فقد احتوت ست عشرة رسالة من صنف المراسلات الحميمية؛ لاتصالها بالزوجة والأب والصديق، ومن مظاهر كتابة الألم في هذه الرسائل، الرسالة التي تلقاها الراوي من صديقه في وقت الحرب، يقول: «ولكني أتلقي من صاحبي هذا الكتاب: لقد زلزلت الأرض زلزالها، واضطرب فيها كل شيء وكل إنسان، أيها الصديق، وما أحاول أن أصف لك من الحرب شيئاً، فأنت تقرأ من ذلك في الصحف المصرية والأجنبية ما لا أستطيع أن أبلغه ولا أن أقاربه، وإنما أكتب إليك محزوناً؛ لأن الظروف لم تهيئ لك الرحلة التي كنتَ ترجوها، وتعقد بها الآمال، والتي كنتُ أنا أرجوها، وانتظر منها خيراً كثيراً»، ففي هذه المقطع الرسائلي تصوير حميم لتجربة الألم والوجع في المقام التواصلي الخاص بزمن الحرب، وفي ذلك إشارة إلى قدرة الرواية على الاستفادة من الأجناس الأدبية المجاورة، وبخاصة فن الترسل في بناء التجارب الإنسانية المتصلة بالمعيش اليومي.
لقد كانت رواية (أديب) لعميد الأدب العربي طه حسين طريقة من طرائق كتابة الألم في السرد العربي الحد يث، ومظهراً من مظاهر بلاغة القول وصناعة المعنى في السرد العربي الحديث، وصورة من صور إدراك المعيش اليومي، ونقله فنياً إلى المتلقي، وهذا كله راجع إلى عبقرية طه حسين الفذة، وحسه الفني في استنطاق اللغة، والكشف عن معانيها المضمرة، إنها الكتابة الحسينية الفريدة التي تتجدد مع تجدد القراءات والتأويلات ومظاهر التلقي.
** **
د.قالط بن حجي العنزي - باحث في السرديات التداولية
@qalit2010