طالما كانت الساحة الأدبية مليئة بالتجاذبات بين النقاد والكتَّاب، حيث يطرح النقاد رؤى وتقييمات تهدف إلى إلقاء الضوء على الإبداعات الأدبية وتحليل مضامينها. في هذا السياق، كنت وما زلت أؤمن أنّ النقد يميل أغلبه إلى الذاتية بعيدًا عن التحليل المنهجي المحايد. ومع قراءتي المتواضعة لما يعج به المشهد الأدبي من آراء نقدية، يتضح أنّ العلاقات بين الأفراد تلعب دورًا بارزًا في تشكيل مسار النقد، مما يجعله يتأرجح بين الإيجابية والسلبية وفقًا لطبيعة تلك العلاقات.
هذا الاتجاه الذاتي في النقد يمكن أن يؤدي إلى تراجع النقد المنهجي الحقيقي، الذي يعتمد على أسس علمية وتحليلية تهدف إلى تقديم قراءة شاملة للنص الأدبي. لكنّ الواقع يظهر أنّ مثل هذا النوع من النقد غالبًا ما يطغى عليه النقد النمطي الدعائي، الذي يخدم أهدافًا تسويقية بحتة، ويهدف إلى جذب القراء لشراء الكتب، بغضّ النظر عن جودتها الأدبية. هنا يصبح النقد جزءًا من اللعبة التجارية، حيث يسعى الناقد إلى الترويج للكاتب أو العمل، مما يحول العملية النقدية إلى أداة تسويقية تهدف إلى زيادة المبيعات ودعم شعبية المؤلف.
من ناحية أخرى، للنقد تأثير نفسي عميق على الكاتب، خاصة إذا كان النقد موجهًا بشكل سلبي أو غير عادل. يمكن أن يتسبب النقد القاسي في زعزعة ثقة الكاتب بنفسه، ما قد يؤدي إلى تراجع إبداعه أو تجنبه لتقديم أفكاره بجرأة. ولكن، لا بُدّ أن يُنظر إلى النقد كجزء من رحلة التعلم والتطور، حيث يمكن للكاتب الاستفادة من ملاحظات النقاد لتحسين قدراته وصقل أسلوبه. هنا يظهر دور ما أسميه «الضبط الداخلي» الذي يجب أن يتسلح به الكاتب، وهو القدرة على التمييز بين النقد البنّاء الذي يمكن أن يسهم في تطويره، وبين النقد الذي لا يقدّم سوى رأي شخصي دون قيمة إضافية.
الضبط الداخلي هو القدرة على إيجاد مسافة متوازنة بين الوهم والحقيقة، بين ما يقوله النقاد وما يشعر به الكاتب تجاه عمله. فبينما يرى الناقد في النص ما لا يراه الكاتب، فإنّ الكاتب يمتلك الرؤية الأعمق لرسالته وأهدافه من العمل الأدبي. ولهذا، فإنّ قدرة الكاتب على التعامل مع النقد، سواء كان إيجابيًا أم سلبيًا، هي ما يحدّد مدى استمراريته في الساحة الأدبية.
لا يمكن إنكار أنّ النجاح في المجال الأدبي يأتي مع تحدّيات وضغوط نفسية كبيرة. فإلى جانب التعامل مع النقد، يواجه الكاتب أيضًا ضريبة النجاح التي قد تتمثل في الضغط المستمر لتقديم أعمال جديدة تلبّي تطلّعات جمهوره. هذه الضغوط قد تؤدي ببعض الكتّاب إلى ما يشبه الانهيار النفسي، خاصة عندما يجدون أنفسهم محاصرين بين التوقعات المتزايدة من جمهورهم ورغبتهم في الحفاظ على هويتهم الأدبية.
تاريخ الأدب مليء بأمثلة لكتّاب مشهورين تأثروا نفسيًا بسبب الضغط الذي وضعوه على أنفسهم، ومنهم الكاتب الياباني ياسوناري كواباتا، الذي انتحر في عام 1972، وكذلك الكاتب الأمريكي إرنست هيمنغواي، الذي انتحر في عام 1961. على الرغم من اختلاف الظروف بينهما، فإنّ العامل المشترك بينهما كان تأثير الضغوط النفسية المرتبطة بشهرتهم ونجاحهم. هؤلاء الكتّاب، رغم إبداعهم وتأثيرهم العميق في عالم الأدب، عانوا من مواجهة الذات في ظلّ التوقعات والضغوط النفسية الكبيرة.
هذه الأمثلة تسلّط الضوء على أهمية الوعي النفسي لدى الكاتب المبتدئ والمحترف على حدٍّ سواء. فالتعامل مع النقد والنميمة والشائعات التي قد تحيط به يحتاج إلى صلابة داخلية. وهنا يظهر دور النقد البنّاء الذي يساعد الكاتب على فهم نقاط القوة والضعف في أعماله، دون أن يُغرق في دوامة الشكوك حول قدراته.
رغم الانتقادات الموجهة للنقد الأدبي، إلا أنه يبقى أداة ضرورية لفهم النصوص الأدبية وتقديمها للجمهور. النقد البنّاء يساعد على إضفاء عمق أكبر على الأعمال الأدبية، ويفتح آفاقًا جديدة للفهم. يمكن أن يكون النقد وسيلة لتشجيع القراء على النظر إلى الأعمال الأدبية من زوايا جديدة، وهو ما يعزّز من الوعي الثقافي ويثري النقاش حول الأدب.
لكن، على الناقد أن يتجنّب الوقوع في فخ الذاتية المفرطة، وأن يسعى لإيجاد توازن بين رؤيته الشخصية والمعايير النقدية المعروفة. فالنقد الذي يعتمد على منهجية واضحة وتوازن بين الذاتية والموضوعية يمكن أن يقدّم قيمة حقيقية للعمل الأدبي، ويساعد في تقدير النصوص بناءً على معايير أدبية متينة.
** **
- فؤاد الجشي