يتصدر الناقد الدكتور عبد الله الغذامي المشهد النقدي العربي الحديث بأطروحته النقدية الجديدة المتعلقة بـ «النقد الثقافي»،بصرف النظر عن الحوارات التي شغلت الساحة الثقافية والنقدية والأدبية حول هذا الموضوع، فإنّ الدكتور الغذامي ينطلق من قاعدة معرفية رصينة تؤهله للخوض في غمار هذه التجربة وطرح هذا المشروع بالكفاءة المعرفية المطلوبة، بعد أن مرّ بتجارب نقدية متعددة ومتنوعة وصل فيها إلى هذه العتبة المعرفية التي هي أشبه بنتيجة جاءت في خضم ممارسات كثيرة وعميقة وواسعة، يرى فيها أن النقد الثقافي هو الحل النقدي الأمثل لمعالجة عاهات المجتمع العربي وعلى رأسها الظاهرة الأدبية، وما يترتّب عليها من تأثيرات ثقافية في سياق معالجات عصرية ذات طابع منهجي رصين ومختلف ومغاير، تعيد قراءة الموروث الأدبي العربي برؤية جديدة ناقدة ونافذة وقادرة على التحليل والتأويل والتفسير. تتعدد أطروحات النقد الثقافي على صعيد الموضوعات والقضايا والأفكار والقيم التي يتناولها هذا المنهج النقدي الجديد تعددا كبيرا؛ بحكم انفتاح هذا المشروع النقدي على أوسع فضاء نقدي ممكن بوسعه أن يجيب على كثير من أسئلة العصر الراهن، وربما من أبرز هذه القضايا هي القضية «الأنثوية» بحيثياتها وتفاصيلها وإشكالاتها وتمثلاتها؛ وذلك لصلتها بحالات ثقافية كثيرة ذات طابع أدبي وثقافي وحضاري وقيمي وأخلاقي أيضاً. تتميّز أطروحة «التأنيث» بقيمة اعتبارية ذات طابع إنساني وثقافي في آن واحد، وهي أطروحة ألقت بظلالها على طبقات الثقافة العربية تاريخيا وحضاريا واجتماعيا بلا توقف ولا مهادنة.
حاول الناقد الدكتور الغذامي الدخول في هذا المعترك الثقافي الصعب من أعراف الثقافة بأنساقها المتنوعة، وكانت الأنثوية منطلقاً مركزياً من منطلقات النظرية الثقافية التي اشتغل عليها لبيان أفكاره ذات القيمة الحداثية.
كتاب الدكتور الغذامي الثقافي (تأنيث القصيدة والقارئ المختلف) هذا - قد عالج قضيتين مركزيتين هما قضية التأنيث وقضية القارئ المختلف- حلقة من الحلقات المهمة في المشروع، توصّل فيه إلى نتائج مهمة تكشّف فيها أسلوبه ومنهجه ورؤيته عن إمكانات تحليلية وتأويلية عميقة، تتوغل في أعماق الظاهرة وتناقشها من جوانبها كافة بروح عالمة وواعية وتعرف ماذا تفعل.
تناولنا الكتاب «ضمن إطار نقد النقد» مشروع الدكتور الغذامي بمنهجية نقدية حرة نسلّط الضوء فيها على جوهر المقولة التي شاء أن يكرّسها في كتابه ومشروعه، ولا شك في أن هذا المشروع يحتاج إلى كثير من الحوار والنقاش والسجال لكي يأخذ مداه الأوسع في خريطة النقد، بعد أن تمكّن من تشكيل تيار نقدي حقق تداولا واسعا على أكثر من صعيد، وأصبح حقيقة نقدية واقعة ودامغة على كل مستويات النظرية والممارسة النقدية، ونريد من كتابنا هذا أن يكون حلقة من حلقات هذا التداول النقدي حول النقد الثقافي.
سار خلف هذا المشروع النقدي الثقافي المثير نقاد كثيرون من شتى أقطار الوطن العربي؛ حاولوا الانتماء إلى هذا التيار النقدي الثقافي الجديد والحديث، مثلما وقف كثيرون في وجهه وانتقدوه وسعوا إلى التقليل من أهميته، وهو ما أراده الدكتور الغذامي حين قرر فتح الطريق أمام المختلفين معه أكثر من المتفقين معه للمضي قدماً في سبيل الجدل والحوار، فهو السبيل الوحيد إلى إنتاج معرفة حقيقية جديدة تجيب على أسئلة العصر الراهن وتمثل رؤيته.
لعل من أهم الخصائص التي يتمتّع بها أسلوب الغذامي النقدي هي خصيصة العقلانية في النظر والرؤية والاستنتاج، فهو يتناول الظاهرة الأدبية ويعرضها بوضوح ويركّز على الفراغات المعرفية والثقافية التي تتخللها، ومن ثم يقدّم الحلّ المناسب على وفق نظريته الثقافية ومستوى تأثير النص أو الظاهرة على مجمل الحراك الثقافي في المجتمع، ويتوفر رأيه على أعلى درجات الجرأة والشجاعة والإقدام من دون أي اعتبار لأي سلطة أو هيمنة ثقافية يمكن أن تثير الحرس القديم، وهو ما جعله عرضة للكثير من الهجمات التي تناولت شخصه أحياناً أكثر مما تناولت عمله النقدي المعرفي.
كتاب «تأنيث القصيدة والقارئ المختلف» من بين كتب الدكتور الغذامي الكثيرة هو كتاب نوعي وجامع لأكثر من قضية مركزية في الرؤية والتفكير، ويمكن القول في السياق نفسه أن الكتاب يحمل ما نطلق عليه هنا «النظرة الجديدة» التي تنطلق من مرجعية واحدة ذات طبيعة حداثية، تعبّر عن إعداد معرفي أصيل يقوم على مجموعة من المعارف المهمة والأصيلة، وهذه النظرة الجديدة هي نظرة حداثية بكل ما يعنيه المفهوم من قيمة ورؤية.
تنطلق هذه النظرة الجديدة أولاً مما نسميه «النظرة الجديدة إلى الشعر» المعبرة عن قراءة ودراسة ورصد وفحص عالي المستوى للشعرية العربية، فالناقد الدكتور الغذامي عارف ممتاز بأحوال الشعر العربي وتياراته وقضاياه بصورة كاملة تقريباً، على نحو يتيح له الحديث عنه بصورة كلية وبأدق ا لتفاصيل والحيثيات والأفكار والقيم، ومن حقه على هذا النحو أن يطرح أفكاره الجديدة في مجال الشعر لما يمتلكه من معرفة دقيقة وشاملة وحاوية به.
النظرة الجديدة الأخرى التي يمكن أن تكون ذات تأثير في الفضاء الثقافي الذي يشتغل عليه الناقد هي «النظرة الجديدة إلى الأنوثة»، بكل معنى الكلمة حيث جرى تغييب مفهوم الأنوثة في مجالات حياتية كثيرة داخل الفضاء الثقافي، أما على صعيد الشعر فإن الحديث عن الأنوثة يعدّ من أكثر الممنوعات تطرفا، بحيث لا يُسمح بتناول الموضوع الأنثوي في الشعر على نحو خاص لأن الذكورة والفحولة المهيمنة لا أنوثة معها، بمعنى أن الذكورة هي المركز والأنوثة هي محيط هامشي، وهنا تتجلى حكمة الناقد في إعادة الاعتبار للأنوثة عبر مفهوم جديد يضع المفهوم على طاولة البحث الجديّ.
والنظرة الجديدة الأخرى فهي النظرة الموجهة إلى عالم القراءة الذي حظي بأهمية كبيرة في نظريات القراءة والتلقي، بوصفها حلقة منهجية جديدة من حلقات تطور المنهجيات الحديثة في قراءة الظواهر والنصوص الأدبية، حتى بلغت الأمور إلى تسمية عصرنا الراهن بـ «عصر القارئ» الذي هو بالضرورة عصر القراءة، ولم يكتف الدكتور الغذامي بطرح هذه الرؤية الجديدة حول القراءة نظرياً، بل طبق كثيراً من فعاليات هذه النظرية إجرائيا على كثير من محاور هذا الكتاب.
يلتحق بهذه النظرة الجديدة حول القراءة نظرة جديدة أخرى حول عالم القارئ الذي يمثل بطبيعة الحال جوهر القراءة، وعلى الرغم من أن المشتغلين في حقل نظريات القراءة والتلقي قد صنفوا أشكال القرّاء إلى أكثر من عشرين نوعاً، إلا أن الدكتور الغذامي قدّم رؤية جديدة حول القراء «المختلف» بكل ما تعنيه مصطلح «الاختلاف» من رؤية فلسفية ونفسية واجتماعية وثقافية، وكان هو نفسه القارئ المختلف في مقاربة كل القضايا التي أتى عليها في المساحة البحثية والنقدية لكتابه هذا.
إن «النظرة الجديدة إلى الاختلاف» عند الدكتور الغذامي أسهم في تطوير الرؤية كثيراً حول القارئ والقراءة، وما يتمخض عن ذلك من نتائج على مستوى القضايا المهمة التي تناولها في الكتاب، والإشكاليات العميقة التي جابهها وحاورها وفنّد ما يستحق التفنيد منها، وعضّد ما يستحق التعضيد منها، وكانت رؤية «الاختلاف» ذات طبيعة علمية ومعرفية تقترن دائما بالحجة والمنطق والسجال المعرفي، بعيدا عن أي تعصّب أو حماس غير طبيعي حول قضية معيّنة، لا بل هو يطلب من قارئ الكتاب أن يختلف معه لصالح بلوغ أعلى مراحل المعرفة في النقاش والحوار والسجال.
تتفاعل مع كل النظرات الجديدة السابقة «النظرة الجديدة إلى المعرفة»، وهي نظرة فيها من العمق والسداد ما يجعل منها معرفة جديدة حقاً، فهو يأتي إلى فضاء المعرفة من أبوابها الواسعة المشرعة، من دون النظر إلى مرجعياته على سبيل التعصب لفكرة معينة أو مرجعية معينة، إنما يتفاعل مع الأدوات المعرفية المستخدمة للتحليل والتأويل والتفسير والرصد بروح وثّابة، تعرف ماذا تريد، ومن أين تبدأ، وأين تنتهي، وما هي السبل الصحيحة والقويمة للوصول إلى المبتغى.
تدعم كل هذه النظرات الجديدة المشتبكة حتما مع بعضها نظرة جديدة أخرى مصاحبة له هي «النظرة الجديدة في التعامل مع المفاهيم والمصطلحات»، إذ على الرغم من أن الناقد الدكتور الغذامي يولي النظرية أهمية تتفوّق عنده على الإجراء، لكنّه على صعيد الإجراء كان يتعامل مع المفاهيم والمصطلحات برؤية واضحة وعميقة في الوقت نفسه، ويجعل منها أدوات للكشف بأدق وأوفى وأوضح ما يمكن.
ولعل من أكثر النظرات الجديدة أهمية في هذا الكتاب وفي كتب الدكتور الغذامي الأخرى هي ما يمكن أن نختصره بالجرأة والشجاعة في مقاربة القضايا والظواهر والنصوص، فهو لا يأبه بمناقشة أي مفهوم أو رؤية أو ظاهرة مهما كانت معقّدة وملتبسة وخطيرة، طالما أن المعرفة هي التي تسود في هذا الاشتغال ولا مصلحة في الحوار والسجال سوى الوصول إلى جوهر الحقيقة.
إن هذا الكتاب بلا أدنى شك هو إضافة معرفية كبيرة شجعتنا على تناوله في كتابنا هذا، للتدليل على قيمة المسار الثقافية الذي يعمل عليه الناقد الدكتور الغذامي، بحثاً عن درس نقدي وبحثي وأكاديمي مرموق بوسعه أن يضيف إلى المعرفة العربية والعقل العربي كل ما هو جديد وأصيل وبارع.
صدر الكتاب عن دار النابغة للنشر والتوزيع في جمهورية مصر العربية
** **
أ.د.رائدة العامري - جمهورية العراق