هيبة نكد ، تلك ما تنتجه صراعات ذوي القربى ، تلقاها حامد بقرار حازم ، الهجرة.. وإن لم تكن للخارج الذي لا عودة عنه ، لكنها كانت مغادرة البلدة بما تتلاشى معه معظم إن لم يكن جميع نزاعات الأسرة عن مسامعه ومعايشته لها بشكل مباشر..
ذلك القرار جنّبه مسؤولية الانحياز والتعاطي الإجباري مع مستجدات الصراع التي لا تنتهي بين شيوخ الأسرة .
غادر للدراسة في مجال نادر في حينه ، يضمن فرصة العمل في جميع مدن وقرى بلاده .. التمريض ، مهنة سامية ، دخلُها مرتفع ، تحقق له كما يحلم الشباب فرصة التعارف مع فتيات أجنبيات كاشفات للوجه وبلا غطاء للشعر ، يتمتعن بجمال آخاذ ، يغبطه عليهن كل الشباب من جيله..
اختار العمل في واحدة من كبرى المراكز الصحية في العاصمة ، مما أتاح له فرصة التعارف مع كبار الشخصيات التجارية والمسؤولين بالوزارة والعديد من الأسر الشهيرة في المدينة.. مما قد يرفعه كثيراً وعاجلا .
ولأنها العاصمة التي يتردد إليها الكثير من أبناء قريته ، فقد وصلت أخباره لعائلته دون انقطاع ، وفيها من المبالغة وسوء الظن ما لم يخطر ببال حامد مطلقا..
( غارق بين فتيات شرقيات وغربيات غير مسلمات ، لا يضعن على رؤوسهن غطاء ، ينام أكثر الليالي خارج المنزل - مع أنها فترات مناوبة إلزامية -
شوهد بمطعم المستشفى يأكل واقفاً !!،
ومرات عديدة بحديقة المستشفى مع إحدى الممرضات وفي يده كأس شاي والأخرى سيجارة ، ضحكاتهم لا تكاد تنقطع .)
هكذا إذن .. !
اتفق الرأسان المتناحران - في أسرته - على ضرورة الوقوف بأنفسهم على هذه الاخبار والسفر العاجل للعاصمة سرّاً للتأكد من حقيقتها.. ولوضع حد نهائي لهذه الانحرافات المخزية للأسرة ولكل المحبين لها .
قيل لهما إن الحديقة هي المكان الأفضل للمراقبة والإمساك به متلبساً بالجرم المشهود..
مبالغة منهما في التخفي ظهرا بوضع أقرب ما يكون لممثلي السيرك ، فهذه النظارات السوداء العاكسة وعصابة الرأس البيضاء بدل العقال والعباءات الغليظة .
افترشا عشب الحديقة بين المقاعد المخصصة للجلوس بجوار مقصف المستشفى الخارجي .. يراقبان بصمت الغادين والرائحين .
لم يطل بهما الانتظار ، لكن بعدما لفت مظهرهما جميع القادمين للحديقة بما فيهم حامد الجالس مع إحدى الممرضات من الجنسية الفلبينية ، والذي لم يدرك أو يتوقع أبداً أنهما أبوه وخاله مشعل ..
تعليقات البعض لم تشغلهما عن المهمة التي جاؤوا من أجلها ، لكن ضحكة حامد المميزة أرشدتهما لوجوده حولهما ..
تزايدت حركات الرجلين الباحثين خفية عن ابنهما المتمرد ..
هذا هو .. يهمس أحدهما.. على يسارك .. حاسر الرأس .. بلبس الأفرنج .. مع تلك النصرانية..
نعم نعم إنه هو .. يا للكارثة ، هل شاهدت ما بيده ؟
ماذا ؟
يدخن التتن .. الخايس !!
هاه .. أي والله ، دعنا نبطش به الآن ونمرغه بينهم ..
لا لا .. اصبر اصبر ، ولدنا ما يصير نفضحه ونفشله، أهم شيء أننا شاهدناه وتأكدنا من كلام الناس.. الوعد بالدار .
بعد صلاة العصر كانا يطرقان باب منزله بالشميسي..
تفاجأ بهما كثيراً إذ لم يكن يعلم بوجودهما في الرياض ولم يسمع أنهما قد رغبا في ذلك سابقاً..
كانا في مظهرهما المعتاد بلا تلك العباءات والنظارات السوداء ولا العمامة البيضاء .. رحب بهما وعبّر عن سعادته بهذه الزيارة المفاجئة ، وبدت عليه علامات الاضطراب ، إذ لم يعهد بإقامة الولائم لمثل هذه المناسبات..
أدركا أزمة ابنهما فأخبراه أنهما قد ارتبطا الليلة مع أحد الأقارب على العشاء وأنه سيرافقهما اليه ..
حاول الإنكار عليهما وأنه الأولى بالقيام بهذا الواجب من الغريب .. لكن خاله نهره بحزم ، بالقول أن صاحبهم أبو حمود ليس غريباً.. وإنما الغريب والمعيب هو الذي يصاحب الكفار ويلبس لبسهم ويشرب شربهم ويعمل أفعالهم..
ثنّى والده على هذا الكلام بالتأييد الشديد.
لم يجادل حامد أو يستفسر من أبيه وخاله عن هذه العبارات القاسية والمفاجئة مثلما هي زيارتهما له دون إشعار مسبق .
والعِلم هالحين يابو حامد ؟ هكذا يسأل مشعل ( خال حامد ) ..
العِلم طال عمرك .. أن حامد الليلة إن شاء الله بعد العشاء نكتب كتابه على بنت خاله موضي ، الناس الخطّابة أشغلوا خالك عليها يا حامد ، ما شاء الله زين وحلا ، ما هي رايحة للأجناب.. الليلة عند أبو حمود نملّك عليها ومتى ما صارت عندك اجازة يا حامد تجي تعرس ، لكن لا تبطي علينا .. شهر شهرين بالكثير.
مبروك يا حامد مبروك.. تراها والله أغلى بناتي .. يقول الخال مشعل .
لم يعلّق حامد بكلمة .. منذهل ، مفاجأة الخبر ، تَصالُح والده مع خاله غير المتوقع..
قطع أبو حامد هذا الصمت بالطلب من ابنه تدبير المهر قبل عودتهما بعد الغد وتسليمه لخاله لعمل تجهيزات العرس .. والآن قم هات تابعيتك قبل ما نروح لعمّك أبو حمود ..
تمت حفلة الزواج بسلام ،،
أما عودته لمقر عمله مع زوجته المقررة بعد اسبوع فقد كانت محل نزاع كبير مع خاله الذي رفض سفر ابنته مع زوجها مادام أنه يعمل في ذلك المستشفى المختلط وانه لن يرضى أن تشاهد ابنته تلك المعاصي والمنكرات ..
تدخلات قرابتهم الضابط ابو حمود وتطميناته يَسّرت اصطحاب حامد لزوجته مع التعهد بأن تعود بمجرد سماعها تعامل حامد مع أي من الممرضات بالمستشفى..
لم تعد موضي ولا حامد لأكثر من خمسة أعوام رغم برقيات الطلب المتتالية والتهديدات الكثيرة من خاله وأبيه .
انشغلت موضي بتربية أبنائها ومتابعة دراستها هي في دروس محو الأمية المسائية ، وكانت سعيدة في حياتها مع حامد أيما سعادة..
تواصلت مهام حامد وترقياته في العمل الطبي حتى تمّ تعيينه مسؤولا عن أحد المراكز في القرى النائية ، وكان لذلك بعض المزايا المادية التي مكنته من بناء منزل جميل في مدينة قريبة من مركز عمله ، لتكون مقر إقامة عائلته لاستكمال دراسة ابنائه في المرحلة الثانوية..
يتردد كل اسبوع مرة أو مرتين على بيته وأسرته ويعود لادارة المركز الصحي الذي أصبح عالمه الجميل في خدمة أهالي القرية ومحط اهتمامه وسعادته.. وقد بادله الناس حباً وتقديراً كبيراً لم يجده من أولئك الشيوخ المتصارعين دوماً على لا شيء ، بل ونقلوا البغضاء والنفور لباقي أفراد الأسرة.
وكما هي الأحوال السعيدة لا تدوم لأحد، فقد صُدمت العائلة الصغيرة بخبر زلزل كيانها لسنوات طوال.. إنه هادم اللذات ، حادث مروري وتصادم بين سيارة حامد وشاحنة كبيرة أدى إلى وفاته على الفور .
فُجعت الزوجة والأبناء بوفاة والدهم وغياب سندهم ومؤنسهم ومصدر سعادتهم إلى الأبد..
انتقل القرار المتحكم بالأسرة الى من كان بهم زاهداً ، بل وغريباً عنهم.. لا يعرفون الأطفال ولا حتى أسمائهم..
عادوا أيتاماً غرباء .. لا مُعيل ولا سند ، الأجداد غدوا كباراً لا قدرة لهم ..والأعمام مشغولون بشؤونهم الخاصة مع انعدام المشترك بينهم .. لا ذكرى فيما مضى ولا أمل فيما سيأتي مع هؤلاء الأيتام الصغار .
كابدت الأم وحدها عنف الأيام وقسوة الحاجة ومراهقة الأبناء وغياب السند.
صدمة العجز ووحشة الوحدة لا تدانيها لوعة أخرى على المرء ، وبشكل خاص للمرأة الأم وللطفل ذو المشاعر المرهفة.
لافي ..وأحياناً لوفي ..أسماء الدلع للابن الثالث خلف اختفت تماماً منذ الثامن من أبريل قبل أربعين سنة ، يوم رحيل حامد .
خلف الأبن الجميل تحدى كل الصعاب كما كان والده يقول عنه وهو في حجره.. هذا الابن يا موضي سيكون مختلفاً..
يا خلَف أبوي .. ترنّ في أذنه حتى اليوم ، وقد شرّف أباه وأمه فعلا ، بل وبلاده عندما مثلها في الخارج منتدباً في إحدى البعثات الخارجية ، ولازال مصدر السعادة لأسرته وأصدقائه وأينما حلّ..
رحم الله حامد وسامح والده وخاله ذوي الهيبة الفارغة المدمرة ، والتي أورثت صراعاً لم ينته بين أبنائهم وأحفادهم حتى اليوم ..
** **
عقل مناور الضميري - الجوف