وقف أمام شاطئ البحر متأملًا غياب الشمس، لطالما فُتن بمنظرها وقت الغروب.
وضع لوحةً بيضاء على حاملٍ معدني أحضره معه، ونثر بين يديه فُرَشُ الرسم وألوانه الكثيرة.
مد بصره نحو تلك الحسناء السائرة ببطء ودلالٍ وهي تعبر من أمامه، مضى يرسمها بدقةٍ ورهافة حس.
مرت سحابةٌ رماديةٌ كأيامه الحالية، قسمتها نصفين تقريبًا، فجأةً خُيِّل إليه أنها أصبحت شمسين.
ذُهل لجمال المنظر المباغت له ولريشته، ظل يتأمله مشدوهًا، وقد غدا في عالمٍ آخر.
يعشق رؤيتها ساعات الأصيل، والأفق مُحْمَرٌ كقطعة جمرٍ مشتعلةٍ، ونفسه تموج بمشاعر الشجن.
لا يمل من مراقبتها وتأملها وهي تلملم بعضها نحو الغرب.
تأسره بجمالها وغموضها، مطلقًا العنان لخياله بإيجاد تفسيرات لرحيلها صوب الغرب يوميًا.
مضى يرسمها بشغفٍ كبيرٍ، طغى اللون البرتقالي والأصفر على بياض اللوحة، وبدأت تظهر ملامح رسمته الجميلة.
شعر بالسعادة أثناء ذلك، متوقعًا خروجه بعملٍ فنيٍ رائعٍ.
أدارت ظهرها له وقد نوت الرحيل، حيث مضت نحو الغياب الذي كان مقدرًا على كليهما.
قال لها وعيناه شاخصتان صوبها، وقد غشتها هالةٌ حزينةٌ أحاطت بها، وبقلبه كذلك:
- لم يعد قلبي يحتمل مزيدًا من لوعات الفراق، إلى أين ؟
- ماذا ستفعلين هناك؟
- هل يا ترى سأعيش يومًا آخر حتى أعود فأراكِ؟.
تباطأت حركتها قليلًا، ظنها سمعت توسلاته، ورقت لمناجاته الحزينة، فأردف قائلًا:
- أحبك على أية حال، رغم انكساركِ، وحزنكِ، وشحوب لونكِ.
مضت تتهادى في طريقها كسفينةٍ تموج وسط العُباب بهدوءٍ وصمتٍ غير آبهةٍ له.
انسربت دموعه متناغمةً مع طريقة رحيلها، فلم يشعر إلا والدمع يبلل وجهه، ونشيجه يتعالى شيئًا فشيئًا، قائلًا بأسىً شديد:
- أنتِ أنتِ مذ عرفتكِ وأحببتكِ، لم ولن تتغيري، جميلةٌ، هادئةٌ، غامضةٌ، وساحرةٌ بشكلٍ لا مثيل له عندي، ولا يسعني تجاهل سحركِ أبدًا.
في لحظةٍ خُيِّل إليه أنها تُلَوِّحُ له، لكن دموعه حالت دون تحققه من هذا الأمر.
شعر بروحه تتبعها، قال حينها:
- روحي تتوق للحاق بكِ، لن أثنيها فمن يطيق فراق من يحب ؟!.
لم تجبه، إذ بدت كشمعةٍ احترقت لتضيء للناس حتى ذابت وتلاشت.
وفي لحظةٍ يأسٍ منه مد يده نحو لوحته التي أوشك على الانتهاء من رسم نصفها، آخذًا في تلطيخها باللون الأسود ومن ثم رماها نحو مياه البحر التي حملتها بعيدًا.
** **
- عائشة عسيري (ألمعية)