الثقافية - كتب - كمال الداية:
صدر عن دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع (2024م) كتاب بعنوان «اللغة العربية إلى أين؟» للدكتور حمزة بن قبلان المزيني. ويتضمن الكتاب مقدمة طويلة عرض فيها لقضية التفاضل بين اللغات التي يرى أنها قضية تثار في كثير من اللغات ويتصدى لها اللسانيون بالتفنيد لكن المتحمسين لهذا النهج لا يلقون بالاً للحجج العلمية التي يقدمها اللسانيون.
ويرى الدكتور المزيني أن من الطبيعي أن يحب الإنسان لغته الأولى ويتغنى بها لأنها ترتبط ارتباطًا قويًّا بهويته المعرِّفة له؛ أما غير الطبيعي فأن يرى أن لغته أفضل من لغة أخرى أو من اللغات الأخرى كلها. ويورد الدكتور المزيني أمثلة كثيرة للأحكام التي صدرت عن منتمين إلى لغات كثيرة يفضلون لغاتهم.
ويطلق بعض المتحمسين من العرب، قديمًا وحديثًا، أحكامًا بأفضلية اللغة العربية على غيرها. ويستشهدون على أفضليتها بما يرون أنه «مزايا» رائعة فيها، ويدعون أنها اللغة الأكمل والأجمل والأقدر على التعبير عن دقائق مكونات النفس ودقائق الأشياء.
ومن التجليات الأخيرة لهذا المنحى كتاب الدكتور خالد بن سعد القعيب الذي صدر مؤخرًا عن دار جداول للنشر والترجمة والتوزيع(2024م) بعنوان: «هل اللغة العربية أفضل اللغات؟ محاولة لبناء معيارٍ للتفاضل».
وتناول الدكتور المزيني هذا الكتاب بمراجعة تفصيلية، واللافت أن الدكتور القعيب لا يحكم بأفضلية اللغة العربية على غيرها، فهو يقول: إن «كتابه لا يقول «بأن اللغة العربية (أفضل اللغات)»، و»لا يقول بانها (ليست افضل اللغات)، وانما يطرح الأفضلية العربية بوصفها فرضية تنتظر التأكيد أو التفنيد» (ص 11).
ويورد الدكتور القعيب 13 «مزية» للغة العربية تنتظم المستويات اللغوية الأربعة: الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية»، ويرى أن هذه المزايا لا «تجتمع» في أي لغة أخرى غير العربية وهو ما يعزز «أفضليتها». ويتحدى المؤلفُ القارئَ بأن يفند هذه الفرضية بأن يجد هذه «المزايا» «مجتمعة» في لغة أخرى، فإذا «لم تجتمع» إلا في اللغة العربية فهذا برهان على صحة «فرضيته».
وتتبع الدكتور المزيني بالتفصيل ما كتبه الدكتور القعيب في مناقشته تلك «المزايا» وإن كانت «تجتمع» في لغة أخرى غير العربية أم لا.
ويتضمن كتاب «اللغة العربية إلى أين؟» أيضًا ترجمةً لمقال المستعرب الأمريكي تشارلز فرجسون المشهور بعنوان «أساطير عن اللغة العربية» الذي استعرض فيه فرجسون عددًا مما يراه «العرب» أدلة على تفوق اللغة العربية على غيرها. إضافة إلى ترجمة مقال آخر لفرجسون نفسه بعنوان «فليأتوا بسورة من مثله» نشره بعد سنوات طويلة من مقاله الأول خفف فيه من لهجته وسوَّغ فيه آراءه التي عبَّر عنها في مقاله السابق. واستعرض في المقال التقدم الكبير في دراسة اللغة العربية في أمريكا، وختمه بحض اللسانيين العرب المعاصرين على الاقتداء بما يرى أنه تأويل لهذه الآية الكريمة مضمونه أن يُنتج اللسانيون العرب بحوثًا تتميز بالجدة والأصالة والفرادة، كما هو معنى الآية التي تعني ــ في تأويله ــ أن القرآن الكريم فريد لا يمكن أن يشبهه نص آخر.
وترجم الدكتور المزيني في الكتاب مقالاً للأستاذ الجامعي الأمريكي جون إيزل بعنوان «الأسطورة والقِيَم والممارسة في تمثيل اللغة العربية» تتبع فيه تشارلز فرجسون فيما قاله في «أساطير عن اللغة العربية»، وأخذ عليه التعميم الذي يعني أن «العرب» جميعًا يرون تلك الآراء عن اللغة العربية. وبيّن إيزل أن بين «العرب» تنوعًا كبيرًا في الآراء عن قضايا اللغة العربية ولا يمكن أن يعمَّم عليهم القول بتلك الآراء التي وصفها فرجسون بـ»الأساطير». كما أخذ عليه ما يشبه أن يكون نظرة استشراقية كامنة في مقاله ذاك.
ويتضمن الكتاب كذلك ترجمة لفصل نشره جون إيزل في كتاب يضم بحوثًا أخرى لباحثين آخرين بعنوان «اللغة العربية إلى أين؟ من عوالِم مُمكِنة إلى مساراتٍ ممكنة». وعرض إيزل في هذا البحث إلى تاريخ اللغة العربية الذي يتميز منذ أقدم عصورها بتجاور «اللغة الفصحى» مع ما يسمى في المصطلحات الحديثة بـ»اللهجات». وناقش إيزل مختلف الآراء عن مستقبل اللغة العربية، بين من يرون أن «اللهجات العربية» سوف تتطور لتصير لغات مستقلة، ومن يقول إن الوضع اللغوي العربي سوف يتطور إلى عدد من اللغات المناطقية التي تجمع كلٌّ منها بعض الأقطار العربية، كأن تكون هناك «لغة عربية» في المملكة والخليج، ولغة أخرى تجمع مصر والسودان، ولغة تجمع الدول العربية في الشام وأخيرة في المغرب العربي.
ويرى إيزل أن الوضع اللغوي العربي تتنازعه قوى الجَذْب التي تقارب بين متكلمي اللغة العربية وقوى النَّبْذ التي تباعد بينهم. ويرى أن المستقبل الأكثر احتمالاً أن يظل وضع اللغة العربية كما هو وضعها منذ القديم الذي يتمثل في وجود مستوى لغوي أدبي مشترك بين العرب وهو ما يسمى الآن «اللغة العربية النموذ جية المعاصرة» التي يدعمها التعليم ووسائل الاتصال الحديثة، إلى جانب اللهجات المحلية والمناطقية التي تنجذب الآن بفعل التعليم ووسائل الاتصال نحو اللغة العربية النموذجية المعاصرة، مع وجود بعض النزعات الانفصالية التي تتمثل في استعمال اللهجات المحلية بكثافة في بعض الأقطار العربية في التعليم والاتصال.
ويختتم الدكتور المزيني الكتاب بإعادة نشر مقال جبران خليل جبران المشهور بعنوان «مستقبل اللغة العربية» المنشور عام 1923م الذي يشهد بأن القضايا التي أثارها جبران آنذاك لم يتغير النقاش عنها على رغم مرور مائة عام على نشر المقال.