وراء هذه الخاطرة النقدية التي تحمست لتدوينها قصة حقيقية، مفادها أني استخدمت عبارة «المرأة الرفلاء» في سياق شبه قدحي بحضور أحد الأصدقاء العرب غير الخليجيين. فاستغرب جليسي من هذا الاستعمال، ونبهني إلى أن وصف المرأة بالرفلاء هو شبيه بوصفها بـ«نؤوم الضحى» وهي الكناية التي قد يدل ظاهرها على معنى قدحي، في حين كان يدل عند العرب القدامى على معنى الترف ونعيم العيش والانتماء الأرستقراطي كما نقول اليوم.
والحقيقة، أني مثل أغلب الخليجيين والسعوديين تحديدا، نشأت على استعمال هذا الوصف للدلالة على المرأة المتقاعسة الكسولة التي لا تقوم بواجباتها في منزل أبويها، أو في بيت الزوجية. إثر ذلك تطور النقاش مع جليسي إلى محاولة البحث عن الأسباب التي جعل المجتمع السعودي تخصيصا يستخدم هذه العبارة في غير المعنى الذي استقر في النصوص القديمة.
وبالعودة إلى أهم المعاجم اللغوية العربية القديمة وجدنا وصف الرفلاء على وزن فعلاء المشتق من فعل رفل يرفل رفلاً ورُفولاً، ورَفَلانًا: وهو ما يشير إلى طريقة في المشي «تدل على التبختر والكبرياء»، وبالتالي قيل رفل أي جرَّ ذيله، وتبختر في سيْره، كما يقال رفل في ثوبه، أي أطاله وجره متبختراً.
ومعنى كلمة «رفل» بصيغة الماضي المجهول المرتبطة بالضمير المؤنث «أنتِ»، نجد أنها تعبر عن التبختر، بمعنى التزين بملابس الفخر والعظمة والسمو. وقد أُشير إلى معنى آخر، حيث يُقال إنّها لا تُحسن السير في ملابسها، مما أدى إلى وصفها بأنها امرأة رفلاء. أما المعنى الحسي، فهو يرمز إلى الترف والنعيم، ذلك أنّ الرفلاء هي المرأة التي تنعم بترف لا حدود له.
يقول الشاعر حسان بن ثابت في ذلك:
وإنّ امْرَأ كانَتْ صَفِيّة ُ أُمَّهُ،
ومنْ أسدٌ في بيتها لمرفلُ
هنا يستعرض لنا الشاعر حسان بن ثابت عظمة الصحابية الجليلة، عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، صفية بنت عبد المطلب -رضي الله عنها-، ويصف في البيت نفسه ابنها الصحابي عريق النسب، أحد حواريّي الرسول الزبير بن العوام. إذ يقول: من كانت أمه صفية، فهو يزدان بشموخ الفخر والعطاء والمجد، مما يدل على أن فعل «يرفل» ومشتقاته ينطوي على معاني السمو والكرامة والتبختر.
يبرز ذلك أيضا في قول الشاعر المنخّل اليشكري:
ولقد دخلتُ على الفتاة الخِدرَ في اليوم المَطيرِ
الكاعبِ الحسناءِ ترفُلُ في الدِّمَقْسِ وفي الحريرِ
تلك هي المرأة التي تتألق في ديباج مُطرز ومذهب، أي ليست امرأة عابرة أو عادية، كيف! وهي زوجة الملك النعمان والتي لقّبت بالمتجردة. هنا، يُبرز اليشكري أن كلمة «ترفُل» تعني التبختر والكبرياء، ولها دلالة حسية تتمثل في الترف. ومن كانت تمتلك سمات المتجردة، فهي بلا شك امرأة تعيش في فخامة ورخاء لا حدود لهما.
تجسد صورة المرأة الرفلاء في الشعر العربي القديم رمزاً للمرأة المتحضرة، حيث تتألق برعاية بشرتها وحمايتها من أشعة الشمس القاسية، وتستخدم العطور الفاخرة لتمنح نفسها لمسات من الجمال.
لقد كانت الطبيعة تساهم في تشكيل هذه الصورة الراقية للمرأة الرفلاء، التي تمر غالبية أيامها في راحة وسكون، بعيدةً عن هموم الكدح وجلب الحطب والماء، إذ كان هناك من يهتم بخدمتها، سواء في الطهي أو الأعمال المنزلية أو الرعي وجلب الماء. ففي منطق ذاك العصر لا يُعقل أن تتمتع الحسناء الجميلة ببشرة ناعمة وصافية، بينما هي مشغولة بأعباء الأعمال المنزلية من طبخ ونظافة وسقاية ورعي واحتطاب.
وقد قدم قيس وصفًا جميلاً ودقيقًا عن محبوبته لبنى، حيث أطلق خياله ليعبر عن مشاعره بأروع الكلمات، فقال في ذلك:
تنام عن كبر شأنها فإذا
قامت رويداً تكاد تنغرف
فالشاعر ها هنا، يصف حركة المرأة الرفلاء في مشيها البطيء، المتسم باللطف والرفق، حتى لكأنها في حالة وقوف وانعدام حركة.
عبر جميل بثينة أيضا عن نعومة جلد محبوبته بشكل مثير، حيث وصفه بعبارات تعكس شدة رقة بشرتها، فقال:
فلو درج النمل الصغار بجلدها
لأندب أعلى جلدها مدرج النمل
ها هنا تصوير مدهش لرقّة جسد المرأة، إذ يتأثر بأدنى لمسة من دبيب النمل. فهل كانت هذه المرأة، التي تتأثر بمثل هذا الدبيب، تقوم بالعمل والشقاء.
أخيرا لقد تجلى في أشعار العرب القدماء تصوير المعشوقة على أنها كائنٌ من عالم الأحلام، فتاة تتسم برشاقة جسمها ونعومة أطرافها، تعيش في حالة من السكون والهدوء بعيدًا عن صخب الحياة وضغوطها، حيث يغمُرها الصفاء في عالمٍ خالٍ من الهموم والمشاغل.
2
لقد أسهبنا في بيان أن ما يعنيه وصف «الرفلاء» في الاستخدام القديم كان يدور حول المرأة المترفة سليلة النسب العريق، وفي ذلك اعتمدنا المرجعية اللغوية كما اعتمدنا المرجعية الشعرية، وذلك دليل قاطع على أن هذا الوصف، أو هذه الكناية لا علاقة لها من بعيد أو قريب بما أصبح الاستعمال الحديث يجوّزه ويكرسه وسيكون منطلقاً في ذلك الم ثل الشعبي الدارج.
«خبز خْبَزْتِيهْ يا الرّفلاء اكليه «
ولأنّ المثل درج على نطاق واسع، في مجتمعنا للدلالة على عكس ما كان يقصد به قديما، فنحتاج إلى تحديد الأسباب التي أدت إلى أن يصبح وصف الرفلاء دالاً على الكسل والخمول وعدم القيام بالواجبات المنزلية إلى غيرها من المعاني السلبية
إن وصف المرأة حديثاً بالرفلاء لا يستخدم على سبيل المدح وأعلا الشأن وتقديم المرأة في صورة المترفة من بنات الأعيان وذوي الجاه، بل على العكس من ذلك المرأة الرفلاء في استخدامنا المجتمعي هي المرأة التي لا تقوم بواجباتها المنزلية، سواء تعلق الأمر بالمرأة في بيت زوجها، أو في منزل والديها. والعودة إلى المثل الشعبي الذي استشهدنا به، يمكن القول:
إنّه مثل طريف يدل على أمرين: أولا عدم إتقان هذه المرأة لإعداد الطعام وعجن العجين. ويدل: ثانيا على أن المرأة من هذا الصنف لا تحظى بتقدير المجتمع؛ ولهذا السبب فإن ضمير المتكلم في هذا المثل الشعبي يأمرها بأكل ما عجزت عن عجنه وإعداده إعدادا جيداً.
وأرى أن التسمية قد مرت بمسارين مختلفين، حيث بدأت بالرفلاء التي عاشت في بحبوحة من العيش، تتمتع برعاية عائلة كريمة، ترفل في ثياب النعيم والكرامة محاطة بالخدم، ولا تعرف طريق المطبخ، فهي لم تعتد على فنون الطهي بحكم ثرائها ووجود من يخدمها. أما المسار الدلالي الثاني، فيتعلق بتناسي الذاكرة الجماعية والشعبية لأصول الاستعمال القديم، وحصر معنى هذه الكناية العريقة في دلالاتها السلبية المقترنة بمعاني عدم القيام بالواجب وجهل قواعد السلوك الأسري.
ومن الناحية الدلالية واللغوية من الضروري التأكيد على أن استعمال عبارة «المرأة الرفلاء « كان يحيل منذ البدء على ضربين من الدلالة الأولى هي ما أفضنا في شرحه بالشواهد والأمثلة أما الثانية فهي التي أصبحنا نستخدمها في عصرنا الحديث، وهو ما يمكن تسميته بالانقلاب الدلالي لهذه العبارة. وإنّنا نذهب إلى أن تطور وضع المرأة في المجتمع أصبح يحول دون استخدام وصف « الرفلاء « بالمعنى القديم.
ونؤكد أنّ المرأة في عصرنا الحالي تحولت إلى عنصر فاعل تنافس الرجل في مقاعد الدرس، وفي اعتلاء مدارج المسؤولية، أي في عصر لم تعد المرأة «موضوع رغبة» وتغنٍّ بمفاتنها، من الطبيعي أن تتصدر الدلالة الثانية أي الدلالة القدحية إمكانيات التأويل للكناية المذكورة.
** **
- ماجد بن عبدالهادي العرجي