تبدأ أحداث الرواية في الحقبة التاريخية التي تزامنت مع «حصار السبعين» في صنعاء اليمن، إبّان تنازع السلطة بين الجمهوريين والملكيين، تتعدد الصور والمواقف التي تنقل تفاصيل الحدث وتأثيره، في وصف يتّسم بالرمزية التي تعبر فيها الجملة عن الفكرة، والصورة عن الحدث بتفاصيله الصغيرة، بدأت قصة «حسين» من منظور والده الذي اختار له المصير البعيد إلى بلد مختلف، نحو فرص أكثر وأمان أكبر، قرار أبويّ جاء بدافع الشفقة، والبحث عن أمان، حتى لو كان الثمن هو الاغتراب.
توقفت رحلة الاغتراب لأول مرّة في مدينة «الطائف»، والتي تشبه في طبيعتها موطن «حسين» -أو هكذا أراد أن يشعر-، ساعدته ملاحظة الطبيعة الجبلية التي يتميز بها الطائف المأنوس، إضافة إلى وجود الرمان والعنب ضمن موائدها أيضًا، وبعد أن وجد من تفاصيل المكان ما يشبه مراتع الصبا، خفف ذلك شعوره بالوحشة، إضافة إلى انشغاله بكسب العيش ومساعدة «والده الورقي»، وسرعان ما بدأت المفارقات بين البيئتين في خلق التساؤلات في عقله، فما بين الريال السعودي واليمني، وكلمة «بابا» و»أبي»، وموقف والده الذي دفع به إلى والد آخر بعيدًا عنه، والوالد الذي استمع إليه بينما يشكو من ابتعاد أبناءه بعد زواجهم، تلك المفارقات المغايرة هي سخرية المكان مما جمعه كنقاط تشابه بين الغربة والوطن، والتي كلما زادت يزيد معها شعور الاغتراب ووحشته، حتى تعثرت خطواته بالعم حمزة، الذي وجد فيه الكثير مما يبحث عنه، لدرجة أن يختاره «حارسًا» لمنزله الواسع، ولحسن حظ «حسين» كان العم حمزة بمثابة المنقذ الذي حرس طفولته، وحقه في التعليم، ورفاهية عيشه بدلاً من أن يستعمله للحراسة حقًا.
كان «العم حمزة» بمثابة الفلك الذي سبح «حسين» في أعماقه ببراعة، عززتها نواياه الصافية، وطفوليته الريفية البسيطة، التي تدفع كل من يعرفه للتمسّك به، وكأن والده في صنعاء، كان يعرف أنه سيكون في حال أفضل، مهما شكل ابتعاده واغترابه في هذا السنّ الصغير ألمًا مبكرًا صعب الاستيعاب.
عاش «حسين» مصاعب الغربة وفصولها الكاملة، فمن خبر «وفاة والدته» البعيدة دون أن يودّعها، والطريقة التي فيها والده إليه بعد عودته إلى صنعاء، وجملته الباسمة «لقد أصبحت رجلاً»، وكأن هذا الوصف يعني أن يتقبل كلّ ما شاهده من تغيرات بعد وفاة والدته، وأن يشعر بالمسؤولية لدرجة أن يصبح ملامًا على أشياء كثيرة لم تمنح له الفرصة حتى يتقبلها فضلاً على أن يتحلى بالمسؤولية تجاهها، فمن أبناء زوجة والده، وواجبه تجاهها وتجاههم، مرورًا بزياراته العائلية واستماعه إلى أحاديث أخواته وشكواهم، ومجالس والده التي أصبح متمايزًا فيها بانفصاله عن عاداتهم، لما تركته تغريبته الأولى من أثر، ثم ينكشف كيف يمكن للزمن أن يخلق التكيّف والتعايش في زيارته التالية، حيث أصبحت كل الأشياء التي أقلقته مستقرة وآمنة، لم يصل «حسين» إلى منزل أسرته ووطنه زائرًا فحسب، بل وصف أيضًا إلى مرحلة من التقبل والفهم، ليعيد صياغة ما يحدث حوله بوعي جديد مطمئن لا يشوبه قلق، وكأن أحداث ما يلي هذا التصوّر كانت مكافأة له، حيث اكتشف أن والده لم ينفه بعيدًا عنه إلا ليتعلم وينشأ في مناخ مختلف عن الظروف التي كانت تحيط به آنذاك، أما اللوم الذي لام فيها والده على رميه في وحشة الغربة، فقد انزاح حينما وجد أن كلما كسبه في سنينه كان يحتفظ به لأجله في حساب بنكيّ، لم يكن والده كما يظن، وهذا ما جعله يشعر تجاه كل شيء بالرضا.
لم تكن طبيعة الحياة لتترك «حسين» ينعم بسلام طويل، إذ سرعان ما وافت المنيّة «العم حمزة» في ذات اللحظات التي كان يفكر فيها في بداية جديدة واغتراب يختاره للمرة الأولى نحو مدينة «جدّة»، وكأن المكان يوافق قراره بهذا الفقد، حيث أن غياب من نحبهم بشدّة عن المكان، قد يكون غامرًا لدرجة ألا نود البقاء بعدهم.
في سنين الدراسة الجامعية، ومع تنامي العلاقات الاجتماعية لبطل القصّة، جمعته الصدف بنبضة قلبه الأولى، «جواهر» والتي تنامت جاذبيتها في قلبه حتى وقف على عتبة أهلها خاطبًا، فكانت تلك أولى المرات التي يوصد فيها باب في وجهه، ترك ذلك ألمًا وجدانيًا دفعه لمحاولة إثبات ذاته بمزيد من العمل والاجتهاد، فكانت حصيلة ذلك الوجع أن تخرج بمرتبة الشرف، وأن صاغ أنين قلبه وخيبة أمله في ديوان شعري حاز على إعجاب النقاد وثناء الوسط الثقافي عليه، وهذه عادة المبدعين في مواجهة الألم والمشاعر المحبطة، إذ يعكسونها من خلال فنّهم لتصبح كالقناديل التي تبدد ظلام أوجاع الآخرين وتسري عنهم، وتشعرهم بالمشاركة، وربما تجاوز الإنسان كثيرًا من ألمه ومشاعره السيئة لمجرد أن يرى من يشابهه ويبدد شعوره بوحشة الوحدة فيما يشعر.
كادت مشاعر الرفض التي عاشها في تجربة الخطوبة الأولى أن تصبح في طيّ النسيان، لولا أن جاءت «نوريّة» وشكل الرفض في خطوبتها صدمة جديدة تخبره بحقيقة واحدة، أن الكذبة الصغيرة التي ربطت اسمه بغير أبيه، خلقت حياة كاملة من الزيف لم يواجهها إلا حينما أراد التحول من كل أدواره التي قام بأدائها ليكون عريسًا!
تركت صدمة الرفض الثانية أثرها البليغ في عقل «حسين»، اندفع مهرولاً نحو الكذبة التي وضع في فلكها دون اختيار، وقام يحسب ما سيجنيه من العودة إلى اللحظة التي حمل فيها اسمه الحقيقي لآخر مرّة، حين كان طفلاً جاهلاً قبل قرابة العشرين عامًا، كانت عودته إلى تلك النقطة تمنحه الرضا حول تنقية ماضيه من الكذب والزيف، ومع أن الثمن كان غاليًا لا يعوّض، إلا أنه اختار أن يصلح ما لم يفسده باختياره، سريعًا عبر إلى تغريبة مختلفة، «صنعاء» من جديد، حيث سيتخلى عن كل شيء سعيًا لأن يعيش حياة جديدة نقيّة، ينسب فيها لأبيه، مهما كان ما يبذله ثمنًا لذلك.
كانت عودته إلى «صنعاء» مليئة بالنهايات، والتكاليف، فما بين إعادة إصداره لهوية صحيحة، وبطاقة تحمل اسمه منسوبًا لوالده الحقيقي، كان والده يعيش آخر أيامه، فقد نال من العمر ما يكفي لوهن جسده وضعف تشبثه بالعيش، أصبحت غربته تلك فصلاً من فصول الواجبات الأسرية، من العناية بوالده حتى وفاته، حتى تأمين مستقبل أخواته وإبراء ذمة والده، لم يعد له حاجة للبقاء بعد ذلك، فاختار غربة جديدة، فكانت «الرياض».
لم تطل البدايات على «حسين» حتى وجد لنفسه طريقًا أحسن في وصفه ومقارنته بقوله: «كنت رجلاً بوظيفة محترمة وهوية مزيفة، والآن صرت رجلاً بهويّة حقيقية ولكن دون وظيفة محترمة»، ومما زاد من غصّة المقارنة في نفسه، أنه لن يستطيع الحديث عما يجول في داخله لأحد، وكأنه مجرم هارب بجريمته ولم تفارق عقله رغم كل تشاغله، حتى لمح فرصة حقيقية لتحويل ما اكتسبه من حياته الأدبية في التحرير والكتابة إلى مصدر دخل، وبهوّيته الحقيقية، استطاع الحصول على فرص للتدريس الخصوصي وتدقيق النصوص والأبحاث، ليثمر ذلك عن شعوره بالرضا بينما يتسلم أول دفعة نقدية مجزية من والد أحد من درّسهم بعد نجاحه بتفوّق، وقد تنامى مع مهارته توافر الفرص التي يطرحها عليه من حوله، ومن ذلك أن يبيع قصائده وأشعاره إلى من ينسبها إلى نفسه، لم يقبل ضميره ذلك، لكن إلحاح من حوله جعله يقول باقتناع:
قالوا: تبيع الشعر؟ قلت: أبيعه
هل ظل شيء لا يباع ويشترى
باعوا المبادئ والضمائر كلها
لم لا أبيع دفاترًا أو أسطرا؟
«وما أسهل قول الشعر حين يتخلى عن روحه، إنه لا يحتاج حتّى إلى زيارة شيطان الشعر». 174
«سميرة» زائرة الخميس التي أحيت الطلل، ونبض لأجلها قبله بعد اعتياد الرتابة، ورغم كل الغموض المضطرب في سيرته التي قدمها إليهم، نجح في الوصول إلى عش الزوجية بنجاح، فكانت انتقالته الجديدة نحو اغتراب الأنس، في زواج عاد لأجله إلى «اليمن» لتكون فرصة يلتقي فيها بمن تبقى من أسرته، ويعود بعد إتمام المراسم على الطريقة اليمنية التي يجهلها، لتصبح الرياض موطنه من جديد ولكن برفقة زوجة.
مع تنامي شعوره بالاستقرار، عاد «حسين» للتنقيب في ماضيه بحثًا عما يدثر شوقه أو يشبع فضوله، هناك حيث وجد نفسه حاضرًا بصفته الغائب الحاضر في وجدان الجميع، بصورته النقيّة الحسنة، مجهولة المعلومات عن مصيره، فيها يثني عليه الجميع ويفتقدونه، ويتساءلون عنه، أشعره ذلك بالرضا والسكون، وبات أكثر تصالحًا تجاه الماضي، وهذا ما انعكس على حاضره بتزايد شعوره بالثقة والاستقرار، حتى قاطعته أسرة زوجته مطالبة له بالطلاق، ومذعنًا رغم الوفاق بينه وبين زوجته لم يعترض، حيث تبيّن بعد سنوات أنه لا يستطيع الإنجاب، فكان الطلاق.
بعد وتيرة صعبة الانفكاك عن الشتات والوحدة، انتشلت مقترحات صديق «حسين» وشريكه فيما بعد رتابة السلبية التي ترسبت عبر أحداث حياته، وبدأ يعود إلى ذاته من خلال الكتابة والنشر، فكانت المكافأة على ذلك أن أصدره ديوانه الثاني، وحانت له فرصة سانحة أن يضع النقطة بدلاً من الفاصلة في حكاية اسمه المزيف، فاقتنصها ليخبر عن وفاة تلك الشخصية في مظاهرة شعبية، ليحسم الجدل والبحث الذي كان يقلقه من أن يكتشف أحد كذبته، وكأن الكذبة يجبرها كذبة أخرى.
أحيانا تجهدنا الحياة لدرجة أن نصاب بالتحيز التوكيدي، نبحث في أحداث قصتنا عمن عاش فصولاً مشابهة، ليكون في ذلك السلوان والأنس، وجد «حسين» ضالته تلك في الشاعرة «أسماء»، التي اكتشف أن اسمها الحقيقي لم يكن كذلك - كما حدث معه -، وتعثر بها بعد غياب ليسمع عن خبر زواجها ثم طلاقها -أيضًا كما كانت قصته تقول -، وزادت على ذلك «وداد عبدالرحمن» وهو اسمها الحقيقي أنها تخوض تجربة نشر ديوانها الشعري أيضًا، فصنع هذا التشابه جسرًا من الألفة والتجانس بينهما، لكن تعدد خيباته وخبراته لم يدفعه إلى الاقتراب منها أكثر، فاكتفى بصداقة تجمعهما وأنس اللقاءات الثقافية والفعاليات التي التقيا فيها معًا، حتى جاءه داعي الحنين إلى الوطن، ورغم كل الأحداث السياسية التي وصفها بالشاهد الشعري:
من غصّة التاريخ حتّى نهدتي
وطنٌ عج زنا أن نراه جميلا
وبينما كان «حسين» كان يتحضر لوداع من تبقى من أحبائه، داهمت أزمة «كورونا» العالم بما عجّل بالقرارات الاحترازية، لتمنعه من مغادرة وطنه الثاني، والأخير، حيث وافته المنيّة مصابًا بها ليكتب الفصل الأخير من قصته.
اهتم الكاتب في تسلسله السردي بالأحداث السياسية وتأثيراتها على الواقع الاجتماعي والنفسي لبطل الرواية، وهذا مما أسبغ الرواية واقعيّة حقيقيّة، كما اتسق حبكة السرد في شخصياتها وأسلوبها المتناغم الملامس برموزه ودلالاته، أما عن البيئة والسياق الاجتماعي والتاريخي فقد اختار الكاتب لها ما يعبر عن الاغتراب في معناه ومبناه، حيث وفرت هذه الحقبة بنية فنية أشبعت فيها الغربة بأبعادها المختلفة وزواياها المتعددة تصويرًا ووصفا، كما أجاد الكاتب في وصفه وتحليله لبعض المشاعر، ومن ذلك:»يا لها من مأساة، أن تقع على رأسك مصيبة، ثم تجد ما يمنعك من التعبير عن أحزانك» حيث أن عدم القدرة على التعبير مع اكتناز الشعور يمثل نوعًا من الاختناق الجاثم، كما أعجبت بتسلسل الوعي وتطور مراحله في عقل بطل الرواية، يقول:»لقد علمتنا الأيام أن زواج أبي كان ضرورة لإنقاذه من الوحدة، ولحاجته لمن يخدمه ويؤنسه..» في لمحة تخبر عن كيفية تحول الكثير من الأشياء التي تدعو إلى الغضب واللوم والقلق إلى نقيضها حينما نأخذ الوقت الكافي لتصورها من جديد، بمنطق النضج والوعي والتقبل، وربما اختصر الكاتب الكثير من الحديث الذي كان يستحق المزيد من الإسهاب، أو هكذا تحضّرت نتيجة لطبيعة السرد، من ذلك حدث فقد «العم حمزة» بوفاته، كان مقتضبًا رغم أثره الكبير في حياة بطل الرواية، مما ذكرني بمقولة: «عندما لا تتكلم عن شيء، فأنت إما لا تكترث له، أو أنك غارق فيه»، فربما كان الفقد موجعًا وداهمًا لدرجة أن لا وصف يمكنه التعبير عنه مهما كان الإسهاب، وإن كنت قد تمنيت استطلاع تفاصيل شعوره تجاه الخبر.
في ختام المطاف، كانت رحلتي آسرة بعد أن أوصدت باب الرواية، وأظن أن الرواية الناجحة ليس ما يتوفر فيه عناصر وبناء النص الروائي فحسب، بل ما تشعر بعد الانتهاء منه أنك تبدأ رحلة اغتراب جديدة بعيدًا عن فصولها وسطورها.
** **
- عبدالله الصليح