من صفات اكتمال الرجولة عند العرب أن يكون المرء فارسا وشاعرا، أو كما يقولون: السيف والقلم. ومن أشهر من اجتمعت فيه هاتان الخصلتان أبو فراس الحمداني. كما أن العديد من أمراء وملوك آل سعود اجتمعت فيهم خصلتا الإمارة والشعر، بما فيهم الأمير تركي بن عبدالله الذي أرسل قصيدة لابن عمه مشاري في مصر ابتدأها بقوله:
سر يا قلم واكتب على ما تورّى
أزكى سلامٍ لابن عمّي مشاري
وكذلك الإمام فيصل بن تركي حفظ له التاريخ قصيدتين إحداهما قالها بعد هزيمته للأتراك في معركة الحلوة مطلعها:
الحمد لله جت على حسن الأوفاق
وتبدّلت حال العسر بالتياسير
وهناك من ينسب قصيدة للمرحوم الملك عبدالعزيز مطلعها:
ورّدوهن هيت واغداه الدليله
والموارد غير هيت مقضّبات
(وهناك من ينسب القصيدة للشيخ نافع بن فضلية).
ومِمّا تأكدت روايته للملك عبدالعزيز وتناقله الرواة قصيدة يسندها على أخيه محمد جاء فيها:
هِجْنِنا داجن على نجد وْحَمَنّه
والقطين نصَبّحه قبل الصلاةِ
كِنّس العيرات راسي شيِّبَنِّه
كلّ يومٍ مِقِبْلات ومِقِفْياتِ
الكرا عفته عيوني حاربنّه
ساهرٍ بالليل عيني ما تبات
قال محمد دبّلوا وارخوا لِعِنّه (أعنة الخيل)
واحتموا دون الركايب ياشفاتي
ما حلى ذبّ القفوش خْلافهنّه
بامّهات اصبع ودِقْسٍ مغمسات
إن ذْبِحنا الموت للصبيان سِنّه
وان سلمنا سالمين من الشمات
أما الملك فيصل فأكثر الناس لا يعرف عنه إلا أنه رجل دولة رزين ومهاب يتصف بالحكمة والحزم والدهاء. والقليل من القرّاء يعرفون عنه أنه شاعر مبدع. ولم يؤثر عن الملك فيصل قصائد في الغزل، ولا حتى في الفخر، بل إن جميع إنتاجه الشعري يدور في فلك الحكمة والتفكر بأحوال الدنيا وطبائع البشر.
يروي منديل الفهيد أن الملك فيصل اتصل على أحد إخوانه، وقيل أحد أبنائه، فقالوا له إنه نايم، فأوحت المناسبة للملك فيصل بهذه الأبيات التي تنضح بالحكمة:
خلوه يرقد والليالي تْصَحّيه
يقوم من نومه بْلَيّا مْنادي
لى غاب عنه اللي من اوّل مْكَفّيه
توّه يَعَرْف انه عن الرشد غادي
يمضي زمانه في حياته يربّيه
تظهر عليه الشمس عقب البرادي
تحمي له المخطر همومه وتكويه
ما عاد عينه تهتني بالرقاد
ومن أشهر قصائد الملك فيصل في الحكمة، والتي لاقت شهرة واسعة بين متذوقي الشعر قصيدته التي منها:
ألى يامل قلبٍ كل ما جا الليل جاه خْلاج
يلوج ويجتلد بالصدر والعربان ممسيني
ألى يامجيب دعوة من تصافق دونه الأمواج
أنا بحماك ياوالى الخلايق لا تخلّيني
ألى ياوجد حالي وجد من خلّوه بالمسهاج
كسير الساق بنحور المعادين المْغِلِّينِ
أنا متْحَيّرٍٍ ما ادري عن المدخال والمخراج
ألى واشيب عيني ما لقيت اللي يْقَدّيني
إلى من دكّني الهوجاس لو انّي على ديباج
ولو جتني عنود الصيد والله ما تْسَلّيني
ألى واهْنَيّ مخلوقٍ تِفَرَّج ضيقِته لى داج
إلى منه نهج للسوق غادٍ له ميادينِ
ترى بعض العرب عمله بروحه مثل عَمْل سراج
يضوّي للعرب والنار في جوف المسيكينِ
ومن أبياته في الحكمة قوله:
النوم سبّاي المراجل والارزاق
ياقِلّ نوم مدوّرين المكاسيب
ان كان ما جاك الولد نومه شْفاق
تحرم عليه مشوهقات المراقيب
ومن شوارد شعره قوله:
أصيح للطير وصْياحي على غيره
على عيون العرب كني على طيري
وفي الوقت الذي كان فيه أميرًا على الحجاز كانت تلك المنطقة تعج بالشعراء المبرزين، خصوصا شعر القلطة الذي اشتهرت به منطقة الحجاز آنذاك، ولعل إقامته هناك، كان لها دور في توجهه لهذا اللون الشعري السجالي الذي برع فيه جلالته حيث كان ينازل شعراء الحجاز في الملاعب ويتحداهم بروح رياضية وموهبة شاعرية فذة لا يشق لها غبار، فقد كان رحمه الله فارس الكلمة وأمير الشعراء.
وقد اشتهر الملك فيصل بتشجيعه للشعراء ورعايته للشعر، وكان دائما محاطا بالشعراء المبرّزين من شعراء النظم وشعراء القلطة وكان مهتما بالشعر والشعراء يشجعهم ويقرّبهم لمجلسه ولا يبخل عليهم بالعطاء لإدراكه لمكانة الشعر عند أهل الجزيرة العربية واحتفائهم به كموروث ثقافي يسجل أيّامهم وتاريخهم وأمجادهم، وكان شعراء عصره يدركون تفوق الملك فيصل في المجال الشعري ولا يقولون فيه من القصائد إلا أجزلها.
وكانت له غفر الله له صولات وجولات في حلبات شعر القلطة ونازل أساطين شعر الرد آنذاك مثل الشاعر لويحان وشعراء الحجاز وتفوق عليهم مثل علي بن عايد النفيعي ومناحي بن سويلم الرياحي، ولا يزال الرواة يرددون بعض نوادره في هذا الميدان. وقد أُشتُهِر عنه تفكيكه لشفرات ورموز أبيات شعراء القلطة الملغمة مهما بلغت من التعمية والتلغيز.
وقد اهتم الملك فيصل بشعر الرد تحديدا لأنه يقوم على التحدي والتعمية والتلغيز مما يساعد على شحذ الذهن وتوسيع المدارك وينمي ملكة التفكير وسرعة البديهة وبعد النظر والتغلغل من السطح إلى العمق في تناول القضايا الإشكالية.
وبالرغم مما يبدو على ملامح الملك فيصل من الجدية والصرامة إلا أنه في سريرته لين العريكة صافي السريرة.
ومن الطرف التي تروى عنه أن أحد الشعراء قدم عليه وألقى أمامه قصيدة مدح جزلة أعجب بها فقال للشاعر غدا سأجازيك على هذه القصيدة. وفي الغد حضر الشاعر فناوله الملك فيصل ورقة كتب فيها قصيدة أطول وأجزل من قصيدة الشاعر، فبهت الشاعر ظنا منه أنه لن ينال مكافأة نقدية على قصيدته فأدار ظهره ليخرج لكن الملك فيصل استدعاه مبتسما وأمر بمكافأته.
لم يكن الملك فيصل رحمه الله مهتما بجمع أشعاره، بل كان يقول الأبيات عفو الخاطر حسب الباعث والمناسبة ثم لا يعود إليها وربما لا يحفظها، أما بالنسبة لأبيات الرد/ القلطة فقد كان المنشدون/الصفوف يرددونها لحظة بَدْعِها لكنها لا تُروى وتُرَدّد بعد ذلك لذا لا يحفظها الرواة، خصوصا لكونها لا تكتب ولعدم وجود آلات التسجيل آنذاك، ولذا لم يصلنا الكثير من شعره عدا شذرات متناثرة يتناقلها الرواة من قصائد النظم وشعر الرد، لكن هذه القلة القليلة تنبئ عن موهبة شعرية فذة، فذة في عمق المعنى وجمال الصياغة ونفاذ البصيرة وسهولة المأخذ، فهي من السهل الممتنع الذي تغلب عليه الحكمة والفلسفة الحياتية مع الاحتفاظ بعذوبة اللفظ وجمال المفردة.
بقي أن نذكر بأن اهتمام الملك فيصل لم يكن محصورا في الشعر النبطي، بل كان للشعر الفصيح في قلبه مكانة خاصة، وقد ذكر الأستاذ مشعل السديري في أحد مقالاته أن طرفة بن العبد هو الشاعر المفضل عند الملك فيصل.
ولما توفي الملك فيصل تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته رثاه ابنه البار الملك خالد الفيصل بقصيدة عصماء مطلعها:
لا هنت ياراس الرجاجيل لا هنت
ولا هان راسٍ في ثرى العود مدفون
والله ما احطك باللحد لكن امنت
باللي جعل دفن المخاليق مسنون
وفيها يقول:
كم خافقٍ وقّف عقب ما تكفنت
وكم ناظرٍ ذوّب سواداه محزون
لو شفت حال الناس عقبك تبينت
مقدار حب الناس للي يودّون
مما بقلبي قلت يابوي لا هنت
والا انت فوق القول مهما يقولون
وقال الأمير الشاعر عبدالله الفيصل قصيدة في رثاء والده جاء فيها:
مصايب الدنيا زمانٍ وتنزال
ومصيبتك في كل يومٍ جديده
ألبستني من لوعة الحزن سربال
لى قلت ولّى شفت شَيٍّ يعيده
وقد ورث أبناء الملك فيصل عبدالله وخالد موهبة والدهم الشعرية. ولا تزال الأسرة المالكة تنجب الكثير من الشعراء المبدعين وعلى رأس القائمة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل وسمو الأمير بدر بن عبدالمحسن.
رحم الله الملك فيصل وأسكنه فسيح جناته.
** **
- بشاير الشريدة