رواية «عقدة الحدار» للشاعر د. خليف الغالب، الصادرة عن دار أثر عام 1440هـ ، تتألف من 136 صفحة من القطع المتوسط.
تعدّ هذه الرواية مرآة صادقة لروح البداوة، إذ تغمرها أجواء البيئة البدوية بكل تفاصيلها، لتأخذ القارئ إلى أعماق حياة أهل الصحراء. وفي كل صفحة، ينسج الكاتب خيوطاً من أصالة الماضي ويحيي فينا تفاصيل معيشة البدو، ممزوجة بعواطفهم وأحلامهم، ليقدم لنا عملاً أدبياً يغمره صدق الواقع.
افتتح الغالب الرواية بمقولة للرحالة البولندي» فاتسواف جفوسكي» بمقولة : (لا يمكن للبدوي أن يكون عبداً) !
لقد استطاع الكاتب أن ينقل القارئ عبر الزمن بطريقة عصرية، ليأخذه إلى «مكتبة مجهولة» تابعة لوراق مغمور، حيث تكمن صفحات التاريخ مدفونة تحت أطمار الورق والغبار، كما لو أن الزمن قد اختبأ في طيات الكتب القديمة، منتظراً من يكتشفه. وفي تلك المكتبة التي تتنفس بين رفوفها أسرار الماضي، يبدأ السطر الأول من الرواية ليكشف لنا عن بطلها، الشاب مطلق، الذي وُصف كـ «وجه نبي لم يؤمن به أحد»، في إشارة لقدر غريب ومظلم يحيط به، كما لو أنه جاء إلى هذا العالم ليحمل رسالة لا يفهمها سوى القليل.
حيث يعانق الأفق رمال الصحراء، وقف بطل الرواية والشخصية المحورية مطلق، ذلك الشاب المفعم بالعزيمة، عمره لا يتجاوز الخمسة عشر عاماً، تتلألأ في عينيه جذوة المغامرة والتحدي. لم يكن كغيره من الفتيان، بل كان يرى في الترحال مع قوافل» الحدرة» قدراً لا مهرب منه، خصوصاً أنه وحيد أمه فقد تركه والده وفارق الحياة. مطلق أحب الصحراء وكأنها نادته باسمه منذ ولادته.
وحينما حانت ساعة مسير قافلة الحدرة، كان قلبه يشتعل رغبةً في الانضمام إليهم. وقف أمام والدته، متوسلا تارةً ومصمما تارةً أخرى، محاولاً إقناعها بأن تدعه يرافق القافلة المتجهة إلى العراق رغم صغر سنه، حيث تُباع الإبل هناك وتُشترى المؤن. لكن الأم، بقلبها الذي يفيض قلقاً، لم تكن مستعدة لرؤيته يغامر في عالم مجهول.
كاد صبره أن ينفد حين حاولت الأم منعه من مرافقة الحدرة، فاندفع قائلاً بحزم لا يقبل المساومة: «إما أن أرحل مع الحدرة، أو أن أقتل نفسي هنا « وصوب بندقيته على صدره ! لحظتها، أدركت الأم أن ما يسكن قلب ابنها ليس مجرد رغبة عابرة، بل قدرٌ مكتوب، وأن الرياح التي تدفعه نحو الأعمال الموكلة للرجال الأقوياء أقوى من أن تُقاوَم، فوافقت على الفور.
اشتملت الرواية على اقتباسات كثيرة على سبيل المثال ما جاء في ص73 : الصبر هو الكلمة التي يخبئها البدو في أرواحهم.
في الصفحة 38 من رواية عقدة الحدار، بدأ الكاتب في نسج عقدة القصة منذ وقت مبكر، حيث تتكشف الأحداث بتشابك مذهل. يظهر مطلق، وهو الشخصية المحورية كما ذكرت، في لحظة عصيبة فقد فيها كل شيء، حتى ناقته التي كان قد أعدها للبيع في «المشهد» ليتمكن من شراء طعامٍ يسد به جوع أسرته وسط الصحراء. لكنه، على الرغم من فقدانه الأمل، أصر على أن لا يكون عالة على من رافقهم حين أرادوا أن يتبرعوا له من أموالهم بعد بيع إبلهم.. وقال لهم سأبيع نفسي على أنني عبد وهذا يكون بمساعدتكم، وهذا ما يتناقض تماماً مع المقولة في العتبات النصية التي تذكر أن «البدوي لا يمكن أن يكون عبداً».
في تلك اللحظة، بدا مطلق كمن يخطط لدهاء ما، إذ أراد أن يبيعه زملاؤه الستة لطرف ثالث كي يحصل على المال الذي يترقبه. وأخبرهم عن شجرةٍ معينة على طريق العودة، أخبرهم أنها ستكون المكان الذي يلتقون فيه بعدما يخلص نفسه من الرق، وكأنه يعدهم بمفاجأة ستفتح أمامه باب النجاة، بينما هو في الواقع، ينسج خيوطاً من الحيلة بانتظار اللحظة المناسبة التي يحقق فيها مبتغاه.
يواجه الفتى عدة أحداث، منها البحث للثأر من
قتلة والده في زمن مضى في النجف، لم يكن مطلق يعلم متى قُتل والده، لكنه أدرك أن القضية طُمست في المجهول، وقيدت ضد يد خفية لا اسم لها ولا ملامح. لكن مطلق يريد الثأر لأبيه بأي شكل من الأشكال. في ص75
في ثنايا السرد، يتحيّز الغالب، للصحراء، وللبداوة وكأنه يرى فيها ملاذاً أخيراً للروح البشرية، إذ يقول:
«الصحراء هي الامتداد الأمثل لروح الإنسان، والأفق الأرحب لحدوده وسدوده.. الخ.
الروائي الغالب في هذا العمل ومن خلال عنصر المكان استحضر أسماء قرى عريقة في النقود الكبرى كـ «لينة» و»زبالا» التي كانت على ممرّ الحج القديم، لتشكل بذلك جسراً مع القارئ تنقله في عمق الحدث ليكون شاهداً على عبقرية الأدب ورسم ملامح التاريخ والإنسان في «عقدة الحدار». كتبت الرواية بلغة أدبية فخمة، تتراقص فيها الكلمات كأنها أنغام من سيمفونية الزمن. تنسج حبكة متماسكة بكل إتقان، تتخللها شخصيات محدودة، لكنها تفيض بالحياة وتفرد تفاصيلها الدقيقة. في صفحاتها تنسج سرداً يأسر القارئ من خلالها جسد صورة البدو، ثم انتقل بسلاسة إلى خطى الحاضرة والمدن، والحرب والجوع اللذين قد يجبر عليهما البدوي ويواجههما بقوة بأس وصلابة وعزم.
** **
- براك البلوي