يمثل الرثاء واحدًا من أصدق الأغراض الشعريّة التي يعبر بها الشعراء عن مشاعرهم وأحاسيسهم بلغة صادقة وعاطفة جيّاشة وصور قريبة، ولا يعزب عن هذا المسار إلا قليلٌ من الشعر، فما عرف من قصائد الرثاء لا تزال الألسنة ترددها والقلوب تلين إلى سماعها، فمنذ أن بكت الخنساء -رضي الله عنها- أخاها صخرًا وما زلنا نردد معها: ( وإنّ صخرا ...)، ومنذ أن بكى مالك بن الريب نفسه ونحن نتذكر معها ( فليت الغضا ... )، وحين نتجاوز حتى نصل إلى شعر العصر العباسي فإذا الرثاء يتطور ويتباين ولكنه يظل محافظا على صورته الكبرى، يرثي ابن الرومي ابنه محمد فبكى وأشجى، ويبكي أبو تمام محمد الطوسي ليكون الخطب جللا في قلوبنا، ويحزن المتنبي على جدته على عظمته وكبره، وتأتي قصائد رثاء أخرى ( التهامي لابنه، وابن الانباري لابن بقيّة، ورثاء المدن وبخاصة الأندلس في : لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصان)، وغيرها كثير؛ ليقدم صورة واحدة تكشف عن عواطف متألمة ومشاعر متوجعة وقلوب منكسرة، ونفوس متعبة، وأرواح متألمة... ولكن ماذا فعل البحتري؟
إنّ البحتري من كبار شعراء العربية في العصر العباسي، وله قصائد مذكورة معروفة، ولكن في شعره انحرافات دلالية وتحولات في أغراض شعرية، وهو ما يكشف عن قدرة مختلفة عما هو معروف في الشعر وبخاصة في موضوع الرثاء. لقد كتب البحتري قصيدة يعزّي فيها محمد بن حميد الطوسي في وفاة ابنته، وفيها تحول عجيب في الرثاء، بل لا أبعد أن أقول: إنه أراد تعزيته فهجا بنته، وهذا ما قرّ في النفس، وزد – إن شئت – أنّ هذه القصيدة تمثل نقدًا للمرأة وإقلالًا من مكانتها وتثريبًا لمن بكى عليها، وهذا من أغرب ما يمكن أن يكون في الشعر، يقول البحتري (من بحر الخفيف):
أَتُبَكّي مَن لا يُنازِلُ بِالسَيـ
ـفِ مُشيحاً وَلا يَهُزُّ اللِواءَ
وَالفَتى مَن رَأى القُبورَ لِما طا
فَ بِهِ مِن بَناتِهِ أَكفاءَ
لَسنَ مِن زينَةِ الحَياةِ كَعَدِّ الـ
ـلاهِ مِنها الأَموالَ وَالأَبناءَ
قَد وَلَدنَ الأَعداءَ قِدماً وَوَرَّث
نَ التِلادَ الأَقاصِيَ البُعَداءَ
لَم يَئِد كُثرَهُنَّ قَيسُ تَميمٍ
عَيلَةً بَل حَمِيَّةً وَإِباءَ
وَتَغَشّى مُهَلهِلَ الذُلُّ فيهِنـ
ـنَ وَقَد أُعطِيَ الأَديمَ حِباءَ
وَشَقيقُ بنُ فاتِكٍ حَذَرَ العا
رِ عَلَيهِنَّ فارَقَ الدَهناءَ
وَعَلى غَيرِهِنَّ أُحزِنَ يَعقو
بُ وَقَد جاءَهُ بَنوهُ عِشاءَ
وَشُعَيبٌ مِن أَجلِهِنَّ رَأى الوَحـ
ـدَةَ ضَعفاً فَاِستَأجَرَ الأَنبِياءَ
وَاِستَزَلَّ الشَيطانُ آدَمَ في الجَنـ
ـنَةِ لَمّا أَغرى بِهِ حَوّاءَ
وَتَلَفَّت إِلى القَبائِلِ فَانظُر
أُمَّهاتٍ يُنسَبنَ أَم آباءَ
وَلَعَمري ما العَجزُ عِندِيَ إِلّا
أَن تَبيتَ الرِجالُ تَبكي النِساءَ
إنّ البحتري في هذه القصيدة أراد أن يعزي محمد بن حميد الطوسي في وفاة ابنته، ولكنه حاد عن الطريق الموروثة في الرثاء، ومال عن السبيل المعهودة في التأبين، فعرض أمثلة كثيرة -هي في رأيه- فيها تسليةٌ وتعزية، ولكنّها من جانب آخر قلّلت من شأن المرأة ومكانتها، فالمرأة -في رأيه- لا تقاتل في السيف ولا تحمل لواء، ولا كفء لها إلا القبر، وهي ليست من زينة الحياة مقارنة بالأبناء والأموال، متجهًا في ذلك إلى قوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا)، والنساء تلد الأعداء كما أنهنّ يورثن المال البُعداء، ثم هو يستشهد بأمثلة من تاريخ العرب: فقيس تميم وأد بناته لا عن فقر بل حميّة وشرفا، ومهلهل أصابه الذلّ لأنّه أمهر بنته جِلدًا، وشقيق بن فاتك ترك دياره ومنازله في الدهناء خوف العار على بناته، ويتجاوز البحتري تاريخ العرب ليتعمق في سير الأنباء، فيعقوب -عليه السلام- حزن على يوسف وهو ولد، وشعيب -عليه السلام- استأجر موسى بسببهن، وآدم -عليه السلام- أطاع حواء فخرج من الجنّة، ثم يأتي الختام ببيتين يختصر فيها فكرته الغريبة في هذا الموقف ليؤكد أنّ القبائل كلها تنسب إلى الآباء ولا تنسب إلى الأمهات، وأن من العجز أن يبكي الرجل المرأة سواء كانت حيّة أو ميتة. ويزيد الأمر عجباً أن الفكرة تكررت في أبيات أخرى وفي الغرض نفسه، وإن كانت بشكل مختصر، يقول البحتري في تعزية أبا الحسن بن الفرات في وفاة ابنته، ويجعل وفاتها نعمة من الله راكناً بذلك إلى حديث ضعيف:
ومن نِعمِ الله -لاشكّ فيه-
بقاء البنين وموت البناتِ
لقول النّبي -عليه السلام-:
دفن البناتِ من المكرماتِ
إنّ هذه الأبيات في القصيدتين على الرغم من أنّها في الرثاء إلا أنّها جاءت مفارقة لما عُرف في هذا الغرض من معانٍ وأفكار وصور ولغة، وهي – أي القصيدة – تمثل انحرافًا دلاليًا واضحًا في شعر البحتري وفي الشعر العربي، على الرغم من أنّي لا أتفق مع ما في هذه القصيدة من أفكار، فالمرأة هي جزء ركين في بناء المجتمع وتستحق التقدير في كل مجالات الحياة.
** **
- د.أحمد اللهيب