تعود جذور الشعر في تراثنا العربي إلى عمق الشعور والتفكير، حيث يندمج بشكل لا ينفصم مع عوالم النفس البشرية، مما جعل العرب يطلقون عليه اسمًا يرتبط بأفكار العقل وخفايا الروح، ألا وهو « الشعر» كما أن العرب يعتقدون أن إنتاجهم «الإبداعي» يتطلب مجموعة من المعالجات النفسية.
أما عن طريقة تأليف الشعراء لقصائدهم ومصدر إلهامهم فيعتقد بعض القدماء أن لكل شاعر شيطاناً يوحي له ويساعده في كتابة القصائد.
فقد سجلت أشعار الجاهليين أسماء شياطين الشعراء بكثرة، ومنهم الأعشى وشيطانه «مسحلا» الذي يتباهى بتلقي الشعر عنه فيقول :
وَمَا كُنتُ شاحِرْدًا وَلكِنْ حَسِبتُني
إذا مِسْحَلٌ سَدَّى لِيَ القولَ أَنْطِقُ
وها هو الصحابي الكريم حسان بن ثابت، قبل دخول الإسلام، أكد أن شياطينه من قبيلة الشيصبان وفي ذلك يقول مفتخراً :
إِذا ما تَرَعرَعَ فينا الغُلامُ
فَما إِن يُقالُ لَهُ مَن هُوَه
إِذا لَم يَسُد قَبلَ شَدِّ الإِزارِ
فَذَلِكَ فينا الَذي لا هُوَه
وَلي صاحِبٌ مِن بَني الشَيصَبانِ
فَطَوراً أَقولُ وَطَوراً هُوَه
وظل هذا الاعتقاد مستمرًّا في أفكار الشعراء من الجاهلية وحتى بعد الإسلام، حيث يرون أن مصدر إبداعهم يعود إلى الشياطين، ويعتزون بذلك.
يقول الشاعر أبو النجم العجلي، والذي ينتمي إلى عصر الأمويين:
إني وكل شاعر من البشَر
شيطانهُ أنثى وشيطاني ذكر
وهذا الراجز الشاعر العباسي يعتبر شياطين الشعر فخرًا واعتزازًا فيقول :
إني وإن كنت صغير السن
وكان في العين نبو عني
فإن شيطاني كبير الجن
يذهب في الشعر كل فن
ويظهر أن الشعراء في العصر الجاهلي أو بعدهم عاشوا في عالم مليء بالخيال والخرافات، حيث كانت الجن تُعتبر مصدر إلهامهم وتفسيراتهم ،فكانوا يؤمنون بشياطين الشعراء ويستخدمونهم كوسيلة لفهم الغيب.
فعجبٌ أعجب من إلهام الشياطين، حيث وصل العرب في ذلك الزمان إلى إيمانهم بنظم الشياطين في الشعر.
ومن الأشعار التي نسبت للشياطين قولهم متبنين مقتل الصحابي «سعد بن عبادة»:
نحن قتلنا سيد الخز
رج سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين
فلم نخطّ فؤاده
وذكر لنا أبو زيد القرشي في كتابه «جمهرة أشعار العرب» عن رواة ذهبوا إلى الصحراء، وصادفوا صدفة شياطين الشعراء، وتحدثوا معهم واستمعوا إلى قصائدهم، ومنها كانت قصيدة أحدهم الذي يقول :
طافَ الخيالُ علَينا لَيلةَ الوادي
من آلِ سَلمى ولم يُلمِمْ بميْعادِ
يُكلِّفُونَ فَلاها كلَّ يَعْمَلَةٍ ..
مثلَ المَهاةِ، إذا ما حَثَّها الحادي
أَبلِغْ أبا كَرَبٍ عنّي وأُسْرَتَهُ
قولاً سَيَذهَبُ غَوراً بعدَ إنجادِ
قال الرواي للشيطان: هذا عبيد بن الأبرص. فرد الشيطان: «ومن العبيد إلا هبيد». فسأل الرواي: ومن هبيد؟ فأجاب الشيطان بقوله:
أنا ابنُ الصّلادِمِ أُدعى الهبيدَ
حبَوتُ القَوافيَ قَرْمَيْ أسَدْ
عَبيداً حَبَوتُ بمأْثُورَةٍ
وأَنْطَقْتُ بِشراً على غَيرِ كَدّ
ولاقَى بمُدرِكَ رَهطُ الكُمَيتِ
مَلاذاً عَزيزاً ومَجداً وَجَدّ
مَنحاناهُمُ الشِّعرَ عن قُدرَةٍ
فهَل تَشْكُرُ اليَومَ هذا مَعَدّ
وفيما يتعلق بشياطين الشعر ، يعارض الجاحظ هذه الفكرة بشكل حاد وينكرها بشدة، معبرًا عن عدم اعتقاده بوجود شياطين مع كل شاعر فهو الذي يقول : «إنهم يزعمون أن مع كل فحل من الشعراء شيطان ، يقول ذلك الفحل على لسانه الشعر» ولفظ «يزعمون» يتبين عدم تصديقه لهذه الخرافة.
ويعتبر الجاحظ الشعر فنًّا يُصاغ ويُصوَّر، ويتفق في ذلك مع ابن سلام.
فالكثير من النقاد اتفقوا، خاصة في العصر العباسي، على أن الشعر هو صنعة كبقية الصناعات تحصل بالتعلم والممارسة.
والأصمعي يرى بأن الشاعر لا يصير في قريض الشعر فحلًا، «حتى يروي أشعار العرب، ويسمع الأخبار ويعرف المعاني، وتدور في مسامعه الألفاظ».
ومن نافلة القول إنه لا يوجد شخص يبتكر الشعر أو يستلهم منه دون معرفة وتأمل في أعمال وأساليب الشعراء السابقين.
فهل انتهى الاعتقاد بشياطين الشعراء بعد أن أوضح العديد من النقاد القدماء جمال الشعر ومكوناته، وتجنبوا ربط الشعر بمعتقدات الجاهلية؟
** **
- ماجد بن عبدالهادي العرجي